– الكندي أديبٌ مغمور كشفناه صدفة، وإنتاجُه مجهول غيبته السنون وبقي منه القليل
– ما زال البحث جاريًا عن ديوان شعره المُسَمّى باسمه، وكتابه “بحر عُمان ذو اللؤلؤ والمرجان”
– وثائقه تمثلُ ذاكرةً اجتماعيةً لحضور اجتماعي قُدِّر لأهله مغادرة الوطن قبل مائة عام تقريبًا
******
*****
فمَنْ مثلي يكونُ قريرَ عينٍ
ينامُ العالمونَ ولا أنامُ
مقامي في النَّصيب بأرضِ إبرا
وقلبي في السَّماءِ له مُقَامُ
لا تعدم المخطوطات والمدونات الوثائقية من ذكرٍ لأسماءٍ ظلَّت مغيبةً مجهولةً أزماناً طويلة، فلم يذكرها ذاكرٌ، ولم يرصدها راصدٌ كما يُقال.. بقيَ خطُّها وإنتاجُها شاهداً عليها يشعرُ الباحثُ بنشوةِ الاكتشاف عند أول ملامسة لها، ولسانُ حاله يرددُ متعجباً:
يدومُ الخطُّ في القرطاس دهراً
وكاتِبُها رميمٌ في الترابِ
ينطبقُ هذا الحال عليَّ شخصيًّا عندما قرأت اسم الشاعر الأديب عبدالله بن خميس بن عبيد بن سالم بن عبدالله الكندي الذي كنَّى نفسه بـ”عبدالرحمن” ووقّع إنتاجه بكنيته؛ إذ كان هذا الرجلُ من المقربين إليّ نسباً وعرقاً، فقد قرأتُ سيرته وإنتاجه في كتاب “النمير” ج 7/ 421 ” للباحث السيفي الذي سمّاه وأطلق عليه “العالم الفلكي الفقيه” بناء على ما عثر عليه من وثائق ومخطوطات تبرز شخصيته.
كانت هذه الكتابة الرائدة للأستاذ السيفي دافعاً لي لمتابعة هذه الشخصية وإظهار إنتاجها الفكري، فوجدتُ فيها عديدَ الجوانب التي نعرفها ولا نعرفها، وهي جوانب تنتمي إلى إبداعٍ شعري أقرب إلى النظم، ومنظومات فقهية، ورسائل تاريخ وفلك ربما – لو قيست زمناً بما كان يكتب في محيطها لكانت تواكبُ ما وجِدَ من كتابات فكرية، وإنتاجات تلامس شغاف النفوس وفق ذائقة معينة لا يصحُّ لنا الحكم عليها الآن، أو إقرار جودتها لعدم اكتمال دوائرها، بل حقها منا الاحتفاء والإظهار والكشف، ولأنها كُتبت في عصرٍ عزَّ فيه القلم، وقلَّت فيها الإبداعات إلا من نوابغ عُرفت وظلت تدور حولها الذائقة وتستنسخها.
أعني بذلك مبدعي الشعر كأبي مسلم البهلاني وابن شيخان، أو مفكري العقيدة من أئمة عظام ومحققين وعلماء وقضاة وساسة سجلهم التاريخ العُماني بأحرف من نور.
وعبدالله بن خميس الكندي هذا الذي نتناوله هنا لأول مرة -كما يتبدَّى لنا- كاتبٌ مهجري مغترب، وشخصيةٌ علميةٌ أدبية جامعة تراءى لنا حضورها في الوثائق الخاصة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ووجدناها لها ذكرًا في بعض الروايات المسموعة، ويعدّ من الجيل الثالث في الشجرة الأسرية لكنود إبراء الممتدة جذورهم للسلالة النزوية وقد غادروها ولم يبق منهم أحد إلا النزر اليسير، ويبدو- أنه من مواليد قرية “النصيب” بولاية إبراء في تاريخ نقدره بالنصف الأخير من القرن الثالث عشر الهجري، وأنه هاجر إلى الديار الإفريقية في طالع القرن العشرين كغيره من العُمانيين الذين تقطعت بهم سُبُل العيش في وطنهم لظروف كثيرة، فاختاروا المهجر وعاشوا فيه ووجدوا فيه ملاذاً آمناً حتى وفاتهم المحتومة، وكانت لهم في أوطانهم أملاكاً وضيعاً ومزارع وأنصبة أفلاج و كتبا ومدوناتٍ ومستلزمات حياة ومكونات واقع إضافة إلى إنتاجٍ علميٍّ يقفُ اليوم دالاً على حضورهم، ولا نستطيع في هذه الآونة الحكم عليهم؛ لأننا لم نقف على ما خلفوه كاملاً وقصارى ما نقوله إن لهم مآثر كشفت الوثائق بعضاً منها على نحو ما وجدنا لهذا الأديب وأقرانه من كنود إبراء الذين يعود أقدم تاريخ لهم إلى الخامس من ربيع الآخر من عام 1294 هجرية، ويبلغ عددهم حسبما أحصيناهم اسميًّا في كتابنا الوثائقي “كنود إبراء بين الحل والمرتحل” قرابة 410 أفراد، 95 % منهم ما يزالون في الديار الإفريقية، بينما يوجد منهم في عُمان أسرتان تضمَّان حتى عام 2020 م قرابة 5 % منهم فقط.
ووفقا للاسم المتحقق وثائقيا، أو ما يمكن تسميته بالجذر الأسري الأول “سالم بن عبدالله الكندي” ينقسم الجذر الأول لكنود إبراء إلى أربع أسر كبيرة هي “أسرة جمعة بين عبيد بن سالم بن عبدالله الكندي”، و”أسرة سليم بن عبيد بن سالم بن عبدالله الكندي”، و”أسرة خميس بن عبيد بن سالم بن عبدالله الكندي”، و “أسرة حمد بن حميد بن سالم بن عبدالله الكندي”.
برز لنا اسم الأديب عبدالله بن خميس الكندي لأول مرة في وصية أخيه خلفان بن خميس الكندي المؤرخة بتاريخ 2 من جمادى الثاني 1327 هـ الموافق لـ 21 من يونيو 1909م، وما ذكر عنه في مخطوط كتاب “الأنوار” المؤرخ بتاريخ 19 من ذي القعدة 1332 هـ، إضافة إلى عقد بيع قطعة زراعية كان يملكها في قرية “النصيب” بولاية إبراء المسمّاة بـ (راجع الخبّة والجلبة العلوية المحاذية له) وذلك بتاريخ 14 من جمادى الأولى 1340 هـ، وهذا التاريخ يشير إلى أنه من الجيل المواكب لحياة ابن عمّه محمد بن جمعة بن عبيد بن سالم بن عبدالله الكندي الأكثر غنى منه وتملكًا وربما كان أحد معاصريه وأترابه، ولا شك أن صلة القرابة بينهما غير بعيدة، فهم أبناء عمومة مباشرة، وبناء على مُعطى المقاربة لحياتهما التي استمعنا إلى جزء منها من أهلنا – فهما من أكثر كنود إبراء حضورًا على المستوى الاجتماعي والفكري، وهو حضورٌ لا شك يتواكبُ وطبيعة الحياة الاجتماعية القبلية بتفاصيلها وقيمها وإرثها الحضاري.
لقد أذكى الباحث السيفي في كتابه “النمير” شرارة البحث عن هذا الأديب الكاتب، وقدَّم لنا خدمة جليلة لا نملك سوى إسداء الشكر عليها، ومن بين أهم المعلومات التي وفَّرها لنا وثائق تشيء بتقييدات تملكه لبعض الكتب، وأن له ديوانَ شعرٍ مكتملا في كافة الأغراض الشعرية، وعنوانه “ديوان الكندي”، وقد أورد منه قصيدة ذاتية في وصف الحمى، إضافة إلى بيتين في الحنين إلى وطنه (قرية النصيب) وقد بذلنا جهداً كبيراً في تقصي معلوماته بغية الحصول على هذا الديوان، وشددنا رحالنا أكثر من مرة إلى الديار الإفريقية، ولكننا مع الأسف لم نعثر عليه، لتضارب الروايات حول وجوده بين مكتبة وأخرى، وقد وجدنا منه ثلاث قصائد تثبت شاعريته، ورسالة يتيمة تدل على امتلاكه أدوات الكتابة وهي في الفقه وعنوانها بـ”عقيدة العقائد”، وقد حفظتها دائرة المخطوطات بوزارة التراث والثقافة ويبدو أن هذا السرد لإنتاجه منبثقٌ من ذكر الكاتب نفسه لإنتاجه حين صرَّح في مقدمة رسالته بما كتبه قائلاً: “وقبل هذه العقيدة ألفتُ كتابًا سميته (دليل الحائر ووقوع الطائر في علم الهيئة والمزج والاستنطاق) و (رجوع الضالة الهارب والسَّارق والمسروق)، وكشف المياه في الآبار والأنهار، وجميع التصاريف العلوية والسفلية، ولكني أخفيته عن يقع في يد الظالم، فإن فيه قصم وتعطيل الحركات، وهلاك المردة، وفي وسط تلك الكتب (البحر الكبريتي الأحمر والغناء الأكبر) وسميته (بحر عُمان ذو اللؤلؤ والمرجان) وإن شاء الله لأنسخه إن كان في العمر بقية، والوزر على فاعله، إنما الأعمال بالنيات ولكلِّ امرئ ما نوى، وبالله التوفيق”.
لقد أشار الأستاذ السيفي إلى هذه الكتب والرسائل جميعها مشيرًا إلى أنه عثر على الكتاب الأول في مكتبة الطيوانيين بالجزيرة الخضراء وهو بحالة جيدة وخطّ جميل ملون يبدو أنه من نسخ أخيه وعليه توقيعه، وما زال بحثنا مستمرًا للحصول على ما تبقى من تلك الكتب وما ذلك على الدأب ببعيد..
تكشفُ عناوين كتب هذا الأديب الكاتب الشاعر عنايته بعلم الفلك، والطب الشعبي، والاستبصار، وهي علوم عُرفت في عصره، وقد برع فيها بمثل ما برع في غيرها اتساقًا مع ثقافة المجتمع وذائقة العصر، ولأنها كانت رائجة منتشرة وتلقى قبولاً حسناً كونها سبيلا لممارسة مهنة الرُّقى والطب الشعبي، وكان الشعر أداته، والأدب خطابه، وهو بذلك يكاد” من أبرز الشخصيات العلمية المميزة في الذات القبلية لكنود إبراء التي تركت –على الأقل- أثراً علمياً مكتوباً، وهي جديرة بالبحث والتقصي، وما وصل إلينا من إنتاجها – حتى الآن – يحيلُ إلى اهتماماته الفكرية والثقافية، وهو بذلك لا ينفك عن طبيعة مجتمعه أو كسائر أبناء جيله ومواطنيه من أبناء عُمان الذين أبدعوا فنونًا شتى، وتركوا آثارًا لن يغيبها الزمن، وكان القلم والكتابة ونظم الشعر أدوات معارفهم المكتسبة جيلا بعد جيل.
يظلُّ تقديم هذه الشخصية ناقصًا دون الاستشهاد بضرب من ضروب إنتاجها، فهو المحك لأحقية كتابتنا أو قل معيار جودة، وقد تمثل ذلك في قصيدة نظمها في وصف ألم ألمَّ به في رأسه لما كان بالجزيرة الخضراء بتاريخ الحادي من صفر من سنة (1329هجرية)، وتبلغ أبياتها تسعة عشر بيتاً، والقصيدة من البحر (الطويل) يقول فيها:
فما بالُ هذا الرأسِ يَعْوي ويَصْدَحُ
ويُفلجُ طورًا ثم يُوري ويَقدحُ
يُسبِّحُ مولاهُ بأمرٍ مُقدّرٍ
وأنتَ لك الحُسنى لدى القَيْدِ أملحُ
فلا فادَهُ راقٍ ولا مَصّ مُحْجَمٍ
ولم تكفِ كيّاتٌ ولا فادَهُ المحُّ
فمنّا الرِّضا والصبرُ معْ كلِّ شدةٍ
كذاك لك النعمى لكَ الحمدُ أنجحُ
وقد زادني في السقمِ دودٌ مُسلّطٌ
على القدْمِ مني، والأصابعُ تقرَحُ
فمَن قال لي: داءٌ يُسَمَّى بلَقْوةٍ
طمَرْتَ على نارٍ بها الجمرُ يلفحُ
ومَنْ قال لي: هذا يُسَمَّى بفالجٍ
فيبقى زمانًا في العظامِ ويَبْرَحُ
ولا فادَه الحلوى ولا الحَارُ كلُّه
ولا الباردُ المجني من البَقْل أوضحُ
أقمت ُ سقيمًا في الجزيرةِ بُرهةً
فماليَ غيرُ اللهِ يعفو ويَصفَحُ
فما هيَ منْ داري ولكنْ تحكَّمتْ
ولا مسكدٌ داري ولا الدارُ مطرَحُ
فما منهمُ إلا هُمامٌ متوَّجٌ
وما منهمُ إلا غُلامٌ مُوشَّحُ
وكم لي بزنْجبارَ مأوىً ومربَعٌ
تفوحُ رياحُ المسكِ منه وتَرشَحُ
وقد عاقني عنها الشكاياتُ والأذى
ومن خالصِ الرجوى أنجو فأُفلِحُ
وما كادني فيها إلا مسيكةٌ
فتسعونَ يومًا لا شموسٌ فأسرَحُ
فتنزلُ في فصلِ الربيعِ ثلاثةٌ
إلى مطلعِ (التمّوزِ) والشمسُ تجمَحُ
فيشتدُّ فيها الصرُّ ريحٌ عواصِفٌ
إلى كفةِ الميزان ذا الحَرُّ يجنَحُ
تمرُّ انعكاسًا حين صيفٍ وعقربٌ
وجَدْيٌ ودلوٌ فيه حرٌّ سيطرحُ
فلا خيرَ فيها غير أن بها الأذى
وأنَّ بها الأسقامَ، والكفرُ أقبحُ
ولا عيبَ فيها غيرَ الرَبَابي كثيرةٌ
وأنّكَ مكرومٌ بِنعماكَ تسرَحُ
تطرحُ هذه القصيدة الفريدة في حقلها الموضوعي (الشكوى) قضيتين أساسيتين هما: المرض والغربة وما أصعبها وما أشد تأثيرهما ووطأهما، وهما أسًّا المعاناة؛ إذ الأولى تشكِّل همَّاً نفسياً يعيشه الشاعر، فقد استنفذ كلَّ أسباب العلاج المتاحة، فلم تفده (الرُّقى ولم تسعفه التمائم فبات رهينا لأقوال التطبّب الشعبي (المحجم والميسم) وظنونهم وأوهامهم، فبين من رأى أنه مصابٌ بالفالج، وبين من أخبره بأنه عكس ذلك، ومما زاد المسألة تعقيداً وألماً بعده عن وطنه واغترابه عن ذويه، فعاش مكابدة ما بعدها ، وعليه فالقصيدة صورة للمعاناة في زمن الجهل والتخلف ورسم للحياة في عصر الشاعر صورها بريشة الفنان وعاطفة المبدع المكابد المليء بشحنات الهم.
وأيضاً له قصيدة تبلغ أبياتها واحدًا وعشرين بيتاً عنوانها: “سفراً زها” وقد نظمها مادحاً السلطان خليفة بن حارب بن ثويني (سلطان زنجبار)، وأشار الأستاذ السيفي في كتابه: “النمير” إلى أنه وجد كسراً في أبيات هذه القصيدة؛ لأنه نقلها من أوراق قديمة مهترئة، وأنها كتبت بخط ركيك، ولكي نقيم خللها أحلناها إلى صديقنا الشاعر عيسى الرواحي فأقام أبياتها ماعدا ثلاثة أبيات في الصفحة الأولى فاتحتها: وتعقبه الحمى –نصبنا له نحلاً– ومن لحم الفراريج.
كما غيّر في بعض الكلمات لتجنب انكسار الوزن، ولم يكن ذلك العيب إلا بفعل التقادم وانمحاء الخط وضبابية الكلمات، ومما جاء في خطبتها:
(قامت ترفل بجلباب المهابة والوقار …. خريدةٌ بكرِ حصانٍ من أوسط الأبكار… سالكة طريق الرشد دائرة بحيث دار … ثانية ببعض خصال الهُمام سلطان زنجبار… خليفة بن حارب الثويني السعيد ابن السلطان …حفظه الله من الكيد ومن عداوات الفجّار): –
سِفْراً (زها) بخطابةٍ وثناءِ
ورجعتُ مسروراً إلى العلياءِ
وقعدتَ في كرسي الحكومةِ خاطباً
بلسانِ صدقِ في القضا وعطاءِ
وحللتَ من بيت السعادة عاشراً
بطوالعٍ من أسعدِ الأنواءِ
وبنيتَ بالمجدِ المؤثلِ كعبةً
طافَ بها العافي بخير ثراءِ
وردتْ بك الخيلُ العتاقُ مواردًا
ومصادرًا تعلو على الجوزاءِ
ذاك الهمامُ خليفةٌ بن حاربٍ
فعلُ العُلاء بمناقبٍ ولواءِ
بحلبة العليا تجلّى فانظروا
من خلفه صلت عرى الكبراءِ
ابن الثويني من جحاجحِ سادةٍ
ابن اليمام أسعد السُّعداءِ
فرعٌ زكا من دوحةٍ أزدية
يمنية من جوهر العرباءِ
ورثَ الحكومة كابراً عن كابرٍ
(بوراثة) الأجداد والآباءِ
غوثُ الورى غيثُ النَّدى أسد الشرى
أظفاره لم تقلم برغاءِ
ملكٌ تقادم عهده فتقدَّمت
طرق السعادة والتقى بسماءِ
فبزنجبارَ تأسست أطواره
وبمسكد وعُمان طودُ ولاءِ
فمودعُ الأدراع يُعرف بالوفا
هذا الأمينُ معدلاً بوفاءِ
فكُسِيتُ من حفظِ الإله كلاءةً
ووقايةً من سطوةِ الأعداءِ
ويضاف إلى قصيدتيه قصيدة ثالثة مهمة عنوانها: “فتوح الخير” يبدو أنه نظمها إبان إقامته في عُمان، وتندرج في الغرض السياسي ومدح الإمام عزان بن قيس، وفيها استقراء للوضع السياسي العماني عقب إمامة عزان بن قيس، وتبلغ أبياتها سبعة عشر بيتًا منها:
فتوحُ الخير من نزوى وإبرا
وفي الرستاق قد تُشفى وتُبرى
فمحمولُ الخطابةِ كان صغرى
وبرهانُ الحقيقةِ صار كُبرى
ومن وجدَ الشهادةَ كان عدلاً
وبعضهم على الأحرارِ أجرى
ومن سلكَ الطريقَ بلا دليلٍ
تضررَ من زمانٍ إذ أضرّا
إماماً مرتضى عدلا تقيًّا
وقد رزقَ الشهادة وهي عذرا
ومن إنتاج هذا الأديب الكاتب كذلك قصيدة رابعة دينية توجد في مكتبة السيد محمد بن أحمد مودعة برقم 267 يرد فيها على من اعتدى على صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في لفتة شعرية تبين عن غيرة وتصد لما اعتمل الوسط الذي عاش فيه الشاعران تجاذبات فكرية:
ما ضامني بين البشر
إلا مقالا منتكرْ
فالقلبُ هاج على النبي
نصب الصحابة بالغدرْ
شتم الصفي حبيبنا
الصديق سيدنا الأبرْ
تبًّا لنفسٍ سامحتْ
بالأفكِ في المولى عمرْ
أهلكتَ نفساً يا فتى
ودخلتَ مع أهل الغررْ
خالفتما المولى بما
أثنى عليهم في السُّورْ
إن لم تكف عن الأذى
والفحش فيهم بالغدرْ
ليُسَلِّطنَّ عليكمُ
المولى عذاباً ذا شررْ
*- رسالة “عقيدة العقائد ونتيجة الفرائد” وهي رسالة فقهية في التوحيد، وقد جارى بها فقهاء عصره وكتبها بحسٍّ تربوي وقصدَ بها التعليم، ولعله متقدّم زمنًا لبعضهم، وكان تمام هذا التأليف كما يقول: “نهار ثامن من صفر سنة 1330 هجرية في أرض الجزيرة الخضراء في مقام الأخ سالم بن خميس بن عبيد الكندي. وتم نسخ الكتاب نهار 13 من جمادى الأول سنة 1330 هجرية” ولهذه القيمة التاريخية وقد ارتأينا تقديم بعض منها نصهّا لأهميتها العلمية في علو التوحيد وأصول الدين، وقد جاء في مقدمتها ما يلي: ” هذه الرسالة في التوحيد، والإسلام، والإيمان؛ لتلقين الصبيان عند ختم القرآن: قال مؤلفها لما ألفت هذه العقيدة وسودّتها بتّ ليلتي فرأيت جوهرة نفيسة في يدي اليمين، دائرة كأنها أخرجت من قالب تضيء كالمصباح (فعلمت أنّها رؤيا طيبّة وإشارة خير دالة عليها). فعلّموها أولادكم، ولو من باب التلقين، فإن فيها علم وثواب إن شاء الله.
يقول الراجي عفو ربه عبدالله بن خميس بن عبيد الكندي: ألفتها صغيرة لكي تسهل على قارئها، وفصّلتها للبيان، واستأنفتها للبراعة في الدّيباجة بتقدم علم التوحيد على سائر العلوم، والثانية المقدمة، والثالثة الخطابة، والرابع الفصل وهو قلبها بكشف الثلاثة ولزوم الستة، والخامسة العقيدة، والسادسة الباجوري، والسابعة الخاتمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
(المقدمة)
الحمد لله المنعم على الإنسان بالعقل النوراني وبإفصاح اللسان عن الحيوانية له بالألوهية، وأقر له بالربوبية والوحدانية، وألهمهم بالواجب والجائز والمستحيل، وأرسل المرسلين حجة على المكلفين من خلقه، بشرًا على بشر، وبإنزال الكتب السماوية عليهم بالأحكام الواضحة، والبراهين القاطعة، وهداهم النجدين ليبلوهم أيّهم أحسن عملا، وقيد ثوابهم وعقابهم على المقدور، وكلّه من فضله وعدله، تسبّح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وما من شيء إلا يسبح بحمده، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القديم الأزلي الحي الباقي، الدائم الأبدي، القائم العليم النادر المريد، السميع البصير، الغني عن جميع المخلوقات لا يفتقد إلى المحل، ولا إلى المخصص، خالق كل شيء، وليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد وبعد :
فلما كان علم التوحيد هو أشرف العلوم ضروريًا، والنفوس مجبولة بالسائمة مع دراسة الآثار مع حجمها، أحببت أن أصنف عقيدة لتلقين الصبيان عند ختم القرآن؛ صغيرة الجرم عن الإقحام، لكنها كبيرة عند ذوي الإفهام، ومن وقع عليها من العلماء فليصلح فسادها، فإنه مثاب -إن شاء الله- وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، تمت البرعة مع الديباجة، ويتلوها المقدمة -إن شاء الله- فأخزم شاهد ما أودع في الحوادث بتنزيهه تعالى عن الشريك، فينكشف للمتأمل مع تصوّر الذهن ما يجب في حقه، وما يجوز، وما يستحيل، والملحدون في تخبطهم إلا من قصور عقولهم، فإنه غير خفي على ذي العقل السليم، فيسلك المؤمن الطريق الأعدل المستقيم، وعلم التوحيد لا ينسخ من أول إلى آخر الزمان، وعلّم مكارم الأخلاق المتفرد بحفظ النظام دائمًا مع ورود شرعنا، فقد كفى عنه وتضمنته مطاويه. تمت المقدمة.
(الاستحثاث)
ومن أراد مسائل القلوب، وما يجب في حقه علّام الغيوب، وما يجوز وما يستحل، وجميع الديانات ومنتهى الغايات، فعليه بكتاب “مشارق أنوار العقول” فكفاه شرفًا وأغزره علمًا تأليف الشيخ عبدالله بن حميد بن سلوم السّالمي -رضي الله عنه- قد أنشأه نظمًا وشرحًا شافيًا حتى استقصى المباحث الدقيقة، وأحاط بالأصول والفروع الدقيقة، لم يحتج دارسه إلى كتاب سواه، ولم يفتقر معه إلى سفر يطالعه، فإذا أمعن النظر فيما حواه، نمط عجيب، وشرح غريب، لم يسبق إلى مثاله، ولم يشرح شارح على منواله، ينتفع به العالم والجاهل، ويستفيد منه الغبي والفاضل، قد عرى عن العواقب الخفية، وأحاط بالعجائب السنية، (ضروري، ونظري) والبراهين الواضحة، فقدّر قواعده، وردّ شوارده، وأوضح دقائق مشكلاته، وكشف للمتبصرين وجوه معضلاته، وللراقين النجاة في مدارج معراجه، والسالكين في شفاء الوجود إشارات قانونه ومنهاجه، فقد طلعت الشمس، وأشرق النهار من مشارق أنوار العقول، فاطلبوه حثيثًا حثيًا أيّها المؤمنون، والسَّلام. تمت الخطابة ويليها الفصل.
(الفصل)
بكشف الثلاثة ولزوم الستة، فإن قيل لك ما معرفة الله، ومعرفة الرسول بثلاث وثلاث، فقل: يعرف الله بثلاث: واجب وجائز ومستحيل، فالواجب الألوهية والربوبية والوحدانية، والجائز الخلق والإفناء والإعادة، والمستحيل الصاحبة والشريك والولد. ويعرف الرسول بثلاثة واجب وجائز ومستحيل، فالواجب الصدق والرسالة والتبليغ، والجائز النوم والأكل والشرب وقيل (النوم والغلط والنسيان)، والمستحيل الكذب والغش والخيانة، وستة أشياء لا بدّ للمريء أن يعرفها بالعربية الله ومحمد وآدم وجبريل والجنة والنار. انتهى الفصل ويليه تلقين الصبيان”.
هذا ما وجدناه من إنتاج فكري لهذه الشخصية العلمية وددنا أن نفتح به آفاق البحث لعلنا نعثر على المزيد، ولعل ما كتبه مفيداً ومحققاً الإضافة والكفاءة لشخصية بدت متوافقة مع مستويات عصرها وإن كانت لا ترقى كثيراً إلى ابتكار نصوص الأدب الخلاق في أرقى مستوياتها، ولكنها –في تقديرنا– حاولت الكتابة ويكفي ما وجدناه من عناوين لها كتبت بخط معجب متسقة مع أنماط الكتابة العُمانية المبكرة.
*- شكر خاص مفعمٌ بالتقدير والامتنان إلى الباحث محمد بن عبد الله السيفي، وللأخوين الكريمين الشيخ سلطان الشيباني والأستاذ محمد بن عامر العيسري. الذين فتحوا لنا مبحثًا علميًّا أثيريًّا خاصًّا.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/الأديب-الفقيه-عبدالله-بن-خميس-بن-سالم-الكندي-ومخطوطاته-التأليفية-في-العقيدة-والشعر-والجغرافيا-والفلك-والطب-الشعبي