آمنة الربيع
يثار الكلام عن علاقة (ميتافيرس Metaverse) ووباء العصر الحديث كورونا ونظام العملة الرقمية بيتكوين وستار لينك لتطوير العالم الافتراضي للمستقبل، إلى غير ذلك من القضايا المتصلة بالتحول الرقمي للحياة القادمة للكرة البشرية. ويطرح الباحث (أحمد الدرع) ضمن صفحته على الفيسبوك أن البشر في خلال الخمس سنوات القادمة سوف يعيشون معتمدين على تقنية المستقبل الجديدة (ميتافيرس) ويلخصها على هذا النحو بلسان (مارك زوكربيرغ) الذي دخل في شراكة مع الفيسبوك قائلا: “ميتافيرس سيكون عبارة عن مجرد لمحة عما سيحدث في المستقبل. بعد خمس سنوات من الآن، سيتمكن الناس من العيش حيث يريدون والعمل من أي مكان يريدون، دون انتقال جسدي”!
ويشرح الدرع موضحا أن هذه التقنية ” تقريبا شيء أشبه بالإسقاط النجمي، يقدر المرء من خلاله أن يمارس حياته ويبني علاقاته ويلبس ما يحبه من خلال مجسّم افتراضي خاص فيه، كما سيكون لديه زملاء عمل واقعيون افتراضيون في الوقت نفسه، بمجرد أن المرء قاعد بمكانه في بيته، وبالطبع فإن هذا العالم التكنولوجي الجديد بالواقع المعزز سيقضي على وسائل التواصل الاجتماعي تدريجيا”. لا شك، لدينا أن الأسئلة سوف تتتالى، عن هذا التحول التكنولوجي القادم، ولعلّ من بين هذه الأسئلة كل ما يتعلق بالقدرة العربية العلمية على المشاركة لا الاكتفاء بالاستقبال أو التلقي في هذه الحضارة.
أعادني هذا الحديث إلى حال المتلقي في المسرح؛ إذ إننا لم ننته حتى اليوم من نقاش الحداثة وما بعدها، إلى التجريب والتباساته، ومسرح الصورة، والمسرح ما بعد الدراما لنجد أنفسنا أمام هذا الاكتشاف الجديد (ميتافيرس)! فهل سيتعرض المسرح كفعالية اجتماعية إلى التهديد؟ وعلى الرغم من تعرض المسرح إلى أكبر الخسارات قبل سنتين عندما حل وباء كورونا إذ سارع العديد من المسرحيين إلى التعبير عن استمرارية وجود المسرح بواسطة قنوات السوشل ميديا فقدموا عروضا من خلالها، ولم تلق تلك المحاولات ترحيبا كبيرا بين المسرحيين؛ لأن جوهر العرض المسرحي يتمثل في عنصر وجود الجمهور وتفاعله المباشر مع جوهر العرض. وعلى الرغم كذلك، من تقديم العديد من المسرحيين بعض المحاضرات أونلاين، وعقد الندوات والورش التدريبية المجانية، لكن غلق المسارح واعتذار المهرجانات الكبرى في الوطن العربي والخليج عن تأجيل فعالياتها حتى إشعار آخر أدى ذلك كله إلى تفاقم خوف المسرحيين من استمرار هذه الكارثة وذبول ظاهرة العروض الحية.
وإذ يتجدد الكلام اليوم عن ميتافيرس فإن هذا قد يشير إلى تحول في التقاليد المسرحية الخاصة بالفرجة. فإلى أين سنمضي مع هذه العلوم والتقنيات؟ هل سيصبح الإنسان مجرّد رقم؟ وبالتالي هل سيكون الأدب والفنون مجرد أرقام؟ وماذا سيكون حال النقد؟ فإذا كان الأمر يقتصر على الأصفار أو الأرقام، فالكتابة الجديدة بتعبير عبدالملك مرتاض عن الرواية قد جعلت من الإنسان كائنا ورقيا بلا تاريخ أو مرجع، إنه مجرد رقم. وهذا الطرح يذكرني بالناقدة المسرحية (آن أوبرسفيد) في معرض حديثها عن الشخصية المسرحية وبحوث السيميولوجيا.
عندما ظهرت السينما والتلفزيون، خاف العديد من الغيورين على المسرح، ورأوا أن هذين الجهازين سوف يقضيان على الفرجة المسرحية وعلى مقومات العرض المسرحي، ولكن الزمن أثبت أن المسرح بخصائصه يستطيع أن يوظف إمكانات التقنية في هذين العنصرين واستثمارها في العرض المسرحي. بالإضافة إلى أننا عندما نتمثّل بالسينما والتلفزيون والمسرح فإن لكل واحد خصائصه وتقاليده الخاصة به.
وعطفا، على ما سبق، وفي إطار التحول التقني المعاصر الذي سيقضي على التقاليد السابقة يتهدد المسرح إلى جوار الـ(ميتافيرس) مفهوم آخر، أشار إليه (باتريس بافي) هو (نقيض المسرح Antitheatre ). ظهر ذلك النقيض لدى (المغنية الصلعاء) صاحبة يوجين يونسكو، و(في انتظار غودو) لصموئيل بيكيت! يذكر باتريس في معجمه الشهير “أن هذا النموذج من المسرح ليس في الحقيقة من ابتكار عصرنا، لأن كل عصر يبتكر دائما مضادا لمسرحياته”، ويستشهد المعجم بالتحريف الذي أصاب المآسي الكلاسيكية في القرن الثامن عشر عندما جرى تحويلها إلى مسرح شعبي ساخر.
ولكن، إذا كان مفهوم نقيض المسرح بحسب باتريس بافي “يتميز بطبع ناقد وتهكمي إزاء التقاليد الفنية والاجتماعية”، فإنّ الـ(ميتافيرس) أبعد ما تكون عن ذلك التميز. ويضيف باتريس أيضا أن مفهوم نقيض المسرح هو “مفهوم اعتباطي وصحفي أكثر منه مفهوما علميا. إنه يغطي الأشكال الملحمية كالمسرح المخالف للمألوف ومسرح العبث وأشكال المسرح التي لا بناء دراميا لها”.
وبهذا المعنى، ستغدو وسائل التواصل الاجتماعي في الزمن القادم أشكالا تقليدية، أو أشكالا دالة على الماضي، وعندئذ فـ(ميتافيرس) هو الخروج على التقاليد الثابتة في كل أساليب الحياة الواقعية، عبر الانتقال في المكان والزمان إلى زمان ومكان جديدين، كما سيؤثر هذا حسب فهمنا لما طرحه (أحمد الدرع) على مفهوم الشخصية الإنسانية وعلى شكلها وما تفترضه أو تريده من حياة ليس فيها هويته وثقافته وطقوسه، وهذا سيعيدنا إلى دائرة النقاش حول قدرة كل عصر على ابتكار مضاداته الثقافية والفنية، كما حدث مع التيارات المسرحية التي ظهرت في زمنها ناقدة لتراتبية معيارية أرسطو (كالمسرح الملحمي نموذجا.) يرى الناقد إبراهيم عبدالله غلوم في الخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي، منطلقا من قدرة المسرحيين على زرع الأمل وتوجيه دفة المستقبل العربي: “إننا قد نعترف بصعوبة تغيير حركة الواقع والتاريخ، لكننا لا نستطيع الاعتراف بعدم قدرة الإبداع والممارسة المسرحية خاصة على خلق أبنية مغايرة للوعي السائد في الواقع. ومن ثم فإن المسرحيين يتحملون مسؤولية تاريخية كبيرة عندما تطرح صورة المستقبل لتجربة المسرح في مجتمعاتهم”.
المدهش هنا، أن “ميتا” هو ما وراء الكون. وعند هذه النقطة أتذكر (برومثيوس)، والقدرة الاستبصارية التي مكنته به مكانته كإله في العصور الإغريقية القدرة على قراءة المستقبل. والمعنى اللغوي لاسمه: “هو من يَفهم مُقدما، ويقابله إيمثيوس أيّ “مَن يَفهم متأخرا؛ بعد فوات الآوان”. فهل الحضارة العلمية التي أنتجت تقنية (ميتافيرس) تُحيل إلى برومثيوس “الذي أحسن لبني الإنسان بأن سرق النار من الآلهة وأعطاها للإنسان، فعاقبه زيوس، كبير الآلهة، على هذا الفعل بأن قيده بالأغلال إلى صخرة عاتية في قمة جبل…إلخ”؟!
إن تراجيدية (برومثيوس مغلولا) بترجمة الدكتور عبدالرحمن بدوي، إحدى روائع إسخليوس الفريدة، فها هو برومثيوس منطلقا من معنى اسمه، يذكر لـ إيو Io) مشوارها المضطرب عبر انتقال زماني وحشي، دون أن ينسى في تحذيراته أن يخبرها بالتفاصيل الدقيقة أن تتوخى الحذر من “الأخوات الجورجونات المجنحات ذوات ضفائر من الأفاعي، ومن الجريفون والأريماسب حتى تصل إلى المثلث الذي احتفظ المصير لها وذريتها بإنشاء مستعمرتها البعيدة…إلخ”! إن إحسان برومثيوس إلى الإنسانية، لا يعادل جانب الإحسان التقني الذي سيطرحه (ميتافيرس) بالضرورة؛ فماذا سيكون عليه شكل الإحسان إلى الإنسانية المنتظر؟ إن كل شيء سيطرح نفسه في مجال التجربة والاختبار والقدرة على الاستبصار، لأن سوق رأسمال المال في عالمنا اليوم يتاجر بالمرض كما يتاجر بالعلاج، ولن يتوقف عن الجريان نحو تحقيق السبق والمكاسب من أجل الحيازة والسيطرة، وسيظل سؤالنا حول ماهيتنا في مسرحنا العربي الذي نريد ونحلم به مثار جدل واسع، حتى لا نظل “إيمثيوسيين” في المستقبل القادم.!
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/ميتافيرس-أو-نقيض-المسرح