ضاميم .. إشراقات شمس الحضارة العمانية على العالم 20 نوفمبر 2021

عظيمة الزمان عُمان، عظيم تراثها الخالد، عظيم إنسانها الذي أوجد ثقافته ولغاته، وقصصه وحكاياه، وأساطيره الغامضة، وأناشيده ومواويله، وقصائده المعلقة في كعبة الشِّعر، وفي كل شبر ترك الإنسان بصمته التي لا تتشابه مع أخرى، كل شبر فيه ضميمة سِريَّة مما جاد به الزمان، وخبَّأته ذاكرة الحياة، وحيثما يولِّي الإنسان العماني بوجهه شطر الجهات الأربع من الدنيا، سيترك أثراً لا يمَحي، بل يبقى متوارثاً بين الأجيال، وأثر العماني في الشرق الإفريقي على سبيل المثال، واضح في عادات الشعوب، وأسماء قبائلها، ومعالمها الأثرية.

عظيمة المكان عُمان، أرض الحضارات العريقة، واللغات واللهجات، “الشُّحرية الجَبَّالية” في الجنوب العماني الأخضر، و”الكمزارية” في الشمال العماني الأزرق، أرض الأمجاد البحرية، منذ السفن التي سافرت إلى أقاصي المعمورة مع بزوغ فجر التاريخ، حاملة بعضاً من لُعَاب اللبان، وناشرة أشرعتها في موانئ العالم البعيدة؛ منذ سفن “ماجان” الشراعية، التي ساحت في عرض البحر، أشبه بحوت عملاق يغوص فلا يغرق، إلى السفينة “سلطانة” التي أبحرت إلى نيويورك عام 1840م، بقيادة أحمد بن النعمان الكعبي، وفي عصر النهضة الحديثة أبحرت “سفينة صحار” الشراعية عام 1980م، إلى ميناء كانتون بالصين، كما أبحرت “جوهرة مسقط” في عام 2009م، إلى سنغافورة، مجسِّدة الأمجاد العُمانية العريقة، وخوض هذه السفن بحار العالم.

وما تزال سفن أخرى تأخذ مسميات: “البغلة” و”الغنجة” و”البدن” و”السنبوق”، وغيرها من حسناوات السفن، المُروِّضات للموج، والقاهرات للعُباب، يزيِّنَ موانئ السلطنة، ويتهاديْن في الساحل العُماني، كحُوريَّات ينشرن ضفائرهن في الماء، ويبحرن في أعماق اللجج، رافعات دقلهن العَالي وكأنهن أيادِي ملاك، هذا التاريخ البحري الزاخر لم يغب عن أذهان منظمة اليونسكو، ففي عام 2017م سجلت مخطوطة “معدن الأسرار في علم البحار” للشيخ ناصر بن علي الخضوري (ت: 1962م)، ضمن قائمة “ذاكرة العالم” في التراث الإنساني، واعتبارها مخطوطة عالمية مهمة في المرشدات البحرية، وهذا شرف للتاريخ العلمي البحري وعلوم الملاحة في عُمان، وازدان هذه الشرف قبل أيام باختيار أسد البحار ذي السفينة الشراعية “العُكَيْري”: الملَّاح العماني أحمد بن ماجد السَّعدي، ضمن الشخصيات المؤثرة عالمياً، بما يمنح التاريخ البحري العُماني أهمية عالمية كبيرة.

وعمان متحف مفتوح للحقب الزمنية والحضارات الإنسانية، تاريخ نتنفَّسه في حياتنا، وتتجسد معالمه في شوامخ مآثرنا، وفي المتاحف بعض من نماذج ذلك الموروث الحضاري، وكلما خرجت من بيتي في منح، أرى “مُتحَف عُمان عبر الزَّمان” قريباً مني، يكبر أمام ناظريَّ يوماً بعد يوم بشكله المهيب، وكأنه سفينة مبحرة، وأرسم في خيالي حجم النماذج الأثرية التي ستنقل إليه، وأرى مواكب الزوار تنتظر فرصة الدخول لزيارته، ليكون المُتحَف من بين شوامخ منح الحديثة والقديمة، كحصن الشُّموخ، وقلعة الفيقين، وبرج الجص، وأراه يطاول الجبل الأشم فَخَاراً، بالكنوز التي ستحفظ فيه.

وفي مدينة مسقط، يظهر “المتحف الوطني”، أشبه بإسوارة في معصم المدينة، أو لؤلؤة لفظها البحر، فإذا بقاعاته تضم روائع الروائع العُمانية، ويشعر زائره أن الحقب الزمنية يَأتينَهُ سَعْياً، وتحتشد أمامه القرون الأولى منذ فجر التاريخ، ومروراً بلقى الألف الثالث قبل الميلاد، وحتى العصر الحديث، تتناثر مقتنياته في قاعات عرض متنوعة، كل قاعة تتنافس عن الأخرى بتقديم تُحَفٍ فريدة، تمثل الإنسان العُماني في تعدد ثقافاته ومقتنياته وإنجازاته، وحوله الكثير من هبات الأرض والطبيعة، ومحاط بإرثه الخالد، يتوزع بعضها في قاعة الأرض والإنسان، وقاعة الحقب الزمنية، التي تعود بالإنسان إلى بدايات نشوء الحياة، وقاعة ما قبل التاريخ والعصور القديمة، وقاعة التاريخ البحري، وقاعة المنجز الحضاري.

وتتجلى عظمة الإسلام في قاعة خاصة به، وهناك وقفت عند التحفة المِحرابية الجَصِّية، التي صنعها النقاش طالب بن مشمل المَنَحي في عام: 970هـ/1562م، ليرسم خارطته الزخرفية في محراب “مسجد العُوَينَة”، بولاية وادي بني خالد، ويُودِعُها ضَميمَة للزمان، ثم تنتقل في عام 2015م إلى المتحف الوطني، وتصبح إحدى أجمل اللوحات الزخرفية، المُشرقة بروح الإبداع.

رحت أتأمل المحراب، فاستفاقت في ذهني تلك النهارات التي قضاها طالب بن مشمل، وهو يسبك تحفته في مخطوطته الجَصيَّة، ويصيغ منمنماتها، لتبدو بعد حفر طويل، تحفة فنية لا تُضَاهى، هي من بين أجمل التحف التي احتفظ بها الزمان وأبقاه للأجيال، وهناك تحف أخرى من الزخارف المحرابية ضاعت، وأصبحت أثراً بعد خبَر، بسبب وحشية الاستعمار كما في جوامع قلهات وقريات ومسقط، التي أحرقها البوكيرك مطلع القرن العاشر الهجري، ولكن الفن الزخرفي لم يتوقف، فقد نهض من جديد على يد النقاش عبدالله بن قاسم الهميمي، ومشمل بن عمر وابنه طالب، فأبدعت أناملهم أعظم المحاريب، ما تزال قائمة إلى اليوم.

وإذا كان المتحف الوطني يمنح الزائر كل هذا البَهَاء، ويعود به إلى الحِقب الماضية، فإن خزائن الروائع لا تتوقف عند المُتحَف فحسب، فهناك حافظات كثيرة لِلُّقى القديمة، تتناثر وبكثرة في الأرض، فحيثما يولِّي الإنسان وجهه شطر سفوح الجبال، سيرى في سفوحها آلاف القباب الأثرية، التي نسميها “بُوْمَة”، ومنها سميت بُومَة الجوامع والمساجد، صممت لتغطي سماء الدرج الداخلي، المؤدي إلى السطح الخارجي، وتسمى المدافن البرجية هذه أيضاً “السِّيبة”، والآلاف منها تُتَوِّج السفوح، وهي ليست أبراجاً صغيرة، ولا أكواماً من حجارة، إنما إرث خالد من حضارة الألف الثالث قبل الميلاد، إرث العصر الحجري والبرونزي، يوم أن كان البشر يدفنون موتاهم في الوهاد العالية، لتلحق أرواحهم بالسَّماء.

والمخطوطات هي الأخرى تتحدث بلسان عربي مبين، مؤلفات المشتغلين بالثقافة، والسَّاهرين في كتابتها وتدوينها، فخطت أياديهم الموسوعات بأقلام من قَصَب الرُّوغ، وحفظوا لنا تراثاً من العلوم والآداب، وإني أكبر في نفسي همَّة الشيخ العلَّامة جميِّل بن خميس السَّعدي رحمه الله، الذي كتب قبل قرنين من الزمان بخط يده، مؤلفه الموسوعي الكبير “قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة” في 91 جزءا، وتمكَّن من تدوين ثلاث نسخ منه بخط يديه، ونحن اليوم لا نجد وقتا بعد طباعته كاملاً لتصفُّحِه، ناهيكم عن قراءته، وارتشاف ما فيه من علوم ومعارف، وكثير من أهل التصنيف والتدوين، من الفقهاء والأدباء والأطباء والفلكيين، لهم إسهام في ذاكرتنا العلمية بمدوناتهم، بل إن بعضهم ارتقى إلى الاعتراف به شخصية مؤثرة عالمياً في سنوات متقاربة، وهم: عالم اللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي، والطبيب الصيدلاني راشد بن عميرة الرُّستاقي، والعلامة المصلح نورالدين عبدالله بن حميد السالمي، والطبيب الفيزيائي عبدالله بن محمد (ابن الذهبي)، والشاعر أبي مسلم البهلاني، وآخرهم الملَّاح الماجد: أحمد بن ماجد، بل إنَّ (4545) مخطوطة محفوظة في دار المخطوطات العمانية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب، طبع منها أكثر من 300 عنوان، من أمهات الكتب العمانية النفيسة، فأصبحت منهلاً للباحثين والدارسين، وبقي منها ما بقي للمشتغلين بتحقيق الكتب.

ولم تتوقف مسيرة التأليف في عُمان عند أزمنة المخطوطات، بل تواصلت في العصر الحاضر لدى جيل من الكتاب، حتى أصبح للكاتب العُمَاني حضوره في المحافل الأدبية عربياً وعالميا، وتُرْجِمَت بعض الأعمال الأدبية إلى لغات أخرى، وحصد بعضها جوائز عالمية، بما يؤكد أنَّ الثقافة جسر يصل بين الأجيال، بين العلماء الأوائل والمشتغلين بالعلم، وبين جيل الرُّواد والجيل الناشِئ، فكم أنت عظيمة يا عُمان.