يعتمد د. جان جبور قراءة تحليلية معمقة تستند إلى تسلسل زمني لأعمال أدبية كاملة عائدة لكتاب فرنسيين معروفين أمثال بوستيل وراسين وفولتير وفولناي وشاتوبريان وهوغو ولامارتين وفلوبير، وصولا إلى رينيه مارشان وميشال ويلبيك، وذلك بهدف استجلاء تجليات صورة الشرق المتخيل، بدءا من القرون الوسطى- باستناده إلى نماذج مثل «أنشودة رولان»(1086 – 1120)، و«أنشودة أنطاكية» (1099 – 1102) المنسوبة إلى ريشار الحاج إلى الأراضي المقدسة Richard le Pèlerin، فضلا عن رواية «صلاح الدين: الحلقة الثانية للحملات الصليبية، تابع ونهاية» (يرجح أن تكون قد كتبت بين 1465 – 1468) وغيرها- وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين. وهو القرن الذي تنامت فيه الإسلاموفوبيا، ولاسيما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر وما أفضت إليه من تحولات في علاقة الغرب بالعالميْن العربي والإسلامي.
لكن كتاب جان جبور المختلف عن كتاب عبد الغني عماد في حقله ومنهجيته يؤكد مرة أخرى أن هناك استشراقا قديما وآخر جديدا، وأن تاريخ الاستشراق لم ينقطع، وإن كانت نظرة الغربيين إلى الشرق، منذ القرون الوسطى حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، لا تتشابه في قوالبها الفنية ولا في المجريات والأحداث والوقائع التاريخية التي رافقتها؛ إذ إن هذه المجريات والأحداث والوقائع التي حكمتْ نظرة الغربيين تلك وأثرت فيها ليست هي نفسها؛ والمقصود بذلك مرحلة الحروب الدينية ضد «الكفار»، ثم السعي لإخضاع الشرق اقتصاديا وثقافيا، وصولا إلى مطلع القرن الحادي والعشرين الذي تنتشر فيه الصورة النمطية للإسلام، والتي باتت مترسخة في الأذهان وأفضت إلى ما عرف بـ «رهاب الإسلام» أو «الإسلاموفوبيا»؛ وهو الأمر الذي أفضى إلى تحول في النهج الاستشراقي. فمن تصورات مبنية على الجهل بمعتقدات الآخر وعلى شيْطنته، وقائمة على الوهْم والتخيل وتعظيم الأنا، إلى فرضيات غدت بديهيات بعيدة عن الموضوعية أنتجتْ ثنائية شرق/ غرب، ونظرية الطبائع الثابتة: عقل غربي يحكمه المنطق وينحو دوما نحو التقدم، وعقل شرقي لاعقلاني وسكوني يعيش ركودا دائما، راحت تتبلْور بدءا من عصر التنوير إيديولوجيا ثورية تمجد العقل والتقدم، سوغت، بدلا من إيديولوجيا القرون الوسطى الدينية، الدعوات إلى استعمار الشرق لتمدينه. ومبدأ الأخْذ بيد الأمم المستضعفة كواجب أخلاقي، والذي تمثل سياسيا في مرحلة ما بين الحربيْن العالميتيْن بالانتداب البريطاني والفرنسي في الشرق، لم يسهم في التقارب بين الشعوب، إذ إنه «لم يكن بنظر الدول الخاضعة سوى استعمار «بصيغة ملطفة»، وهو بالتالي قام على تصنيف البشر وتأكيد التفاوت بين الشعوب».
بين الأمس واليوم
لكن أحداث القرن العشرين (أزمة السويس عام 1956، حرب العام 1967، وتحول القضية الفلسطينية إلى الصراع المسلح، وانتصار الثورة الإيرانية، والحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، فضلا عن مشكلة الهجرة وحرب الخليج…إلخ)، أسهمت في تجذير صور نمطية سلبية عن العرب والمسلمين. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتكرس العدو الإسلامي كبديل عن العدو الشيوعي الذي كان قد سقط بعد انهيار جدار برلين، ليجد المنظرون الاستشراقيون في هذا العدو الجديد- أي في العدو الإسلامي- ضالتهم، فتمت صناعته على المستوى الفكري مع نظريتيْ «نهاية التاريخ» لفوكوياما و»صدام الحضارات» لهنتنجتون. وهما أنموذجان استند إليهما جبور، من بين نماذج أخرى، للكشف عن تطور طبيعة الصور النمطية بالشكل وليس بالجوهر. تلك الصورة التي أسفرت عن تكاثر «الكتابات العدوانية والاستفزازية في أوساط الإعلاميين والمثقفين، الذين يموهون خطابهم العدائي إزاء الإسلام باعتباره دفاعا عن قيم الحرية والعلمانية والديمقراطية»، والذي اجتهد المؤلف عند كل محطة في شرح حيثياته وأصوله.
هكذا تتبع جان جبور «تاريخ النظرة السلبية للعرب والمسلمين في فرنسا»، إذا ما جاز التعبير، التي تغذت من تاريخ استعماري طويل، وتدعمت أو قويت منذ ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، بسبب ما ولدته حرب التحرير الجزائرية من مشاعر عنصرية، تبعتها أزمة نفطية فأزمة بطالة جعلت من المهاجرين هدفا لانتقادات الإعلام والسياسيين، فضلا عن السجال حول الاندماج ومدى قابلية المسلمين للانخراط في المجتمعات الغربية، في ظل تنامي الحركات اليمينية، وعلى رأسها «الجبهة الوطنية»، التي نادت بـ «فرنسا بيضاء»، وربطت هويتها بـ «الكثلكة».
إنها النظرة السلبية التي جعلتْ «رحلة إلى مصر وسوريا Voyage en Egypte et en Syrie « (1787) لفولناي على الرغم من تشكيلها، في زمانها، مفصلا في تاريخ أدب الرحلة تمثل في ملامسة هذا الأدب علوم السياسة والاجتماع والأنتروبولوجيا، خاضعة لهيمنة منطق «الأخذ بيد الآخر وإدخاله في ركب التقدم عن طريق اعتناقه مبادئ فلسفة التنوير». والأمر عينه تكرر مع غوستاف فلوبير الذي كان قد عزف عن الطابع الرومانسي الذي طبع الأدب عموما وأدب الرحلات خصوصا، إذ غرق في واقعية أقرب إلى الفظاظة في نظرته إلى الشرق، فلم يتلكأ عن التساؤل لماذا لم يعمل الغرب ولو تدريجيا على إدخال الشرق في إطار الحضارة الحديثة…
في حين أن هذه النظرة السلبية نفسها قادت قبل ذلك الكاتب والروائي الفرنسي لويس برتران، الذي قصد الشرق عام 1906، إلى أن يكون الوحيد الذي لم يناد باحتلاله، لكن ليس انطلاقا من مبدأ التعاطف الإنساني أو من مبدأ احترام رغبة الآخرين في تقرير مصيرهم- على حد تعبير جان جبور- بل كتعبير هو «الأكثر فظاظة عن العدائية تجاه الشرق، هذه الأرض المتوحشة»، وذلك لقناعة لويس برتران بلا جدوى تغيير واقع شرقي يحمل أمراضا مستعصية. فينقل جبور عن برتران قوله: «بدل أن تنتقل حال التحضر إلى الناس المتوحشين الذين يعيشون في البلدان المتخلفة، فإن هذا الاحتكاك قد يؤتي ثمارا غير منتظرة، ويعود أهل الغرب إلى حال التوحش».
البحث عن معنى
مستحضرا الفيلسوف الفرنسي من أصل بلغاري تزفيتان تودوروف، الذي دعا وروج للمنهج البنيوي، ولمعنى الأدب القائم في التقنيات الأدبية، يثير جان جبور مسألة عودة تودوروف لاحقا، وهو المدافع الشرس عن نظرية «الفن للفن» أو «الكتابة للكتابة»، إلى الربط بين الأدب والمجتمع خوفا على الأدب من الشكلانية، ومن غياب المعنى. فيسأل جبور كيف يا ترى يمكن لتودوروف لو كان حيا أن يوصف «اليوم بعض الأدب الذي صدر في السنوات الأخيرة في فرنسا، والذي يسيء إلى كل القيم الإنسانية ويستخدم كسلاح لإشاعة الحقد والكراهية، مما يؤدي حكما إلى النبذ والعنف؟».
كتاب «الشرق المتخيل في الخطاب الغربي» الذي صاغ استنتاجاته بناء على دراسة معمقة وشواهد كثيرة، توخى مؤلفه من خلال دقته العلمية ألا يقع في «استشراق معكوس» يرى في الآخر (الغربي) عقلا مفطورا على تشويه صورة الشرقي. لذا يقر المؤلف بأن الكتاب الذين تناولهم بالدرس والتحليل لا يمثلون لوحدهم الفكر الفرنسي، بقدر ما أن الفرنسيين لا يختصرون الفكر الأوروبي. من هنا لا يسعنا إلا التنويه بكتابه، كما نوهنا من قبل بكتاب عبد الغني عماد، لما تمثله مثل هذه الكتب العلمية من قيمة معرفية تسهم في التقاء الشرق والغرب، بعكس ما قد يظن البعض، لكون كتاب د. جبور هذا ينطلق من قناعة أو «حكمة» على حد تعبير المؤلف هي أن «معرفة الآخر تبدأ حكما بمعرفة الذات، وفهْم الآخر يبدأ بالاعتراف به كقيمة ثقافية وحضارية ودينية والتخلص من هاجس ترويضه ونسخه على الصورة التي نريد».
*مؤسسة الفكر العربي