تنزيل (65)

أضاميم .. مدونات الأحجار والجدران والأخشاب وما بقي منها

أرْضٌ فسيحة تتناثر فيها المقابر، وكأنها أضراسٌ لكائنات متحجرة، مليئة بالكنوز الثقافية، بين قصائد رثاء نُحِتت في جلاديم الصُّخور، ووصايا موتى، وأشجار أنساب، وآيات قرآنية نُقِشَتْ بخطوط بديعة، كل هذا وجدته في شواهد القبور، التي وقفت عليها في خلاء مهجور، لا يسلكه الناس إلا حين دفن موتاهم.

وتقودني الخطوات لزيارة المساجد القديمة، فأرى جدرانها وأقواسها المستديرة، أشبه بألواح تدريس التلاميذ، كتبت عليها قصائد، ووثقت فيها أحداث ذلك الزمان، في تلك الجدران الملونة بالأحبار، نُصوصٌ كتبت قبل قرون من السنين، لا قَرْنَ لها ولا قَرِين.

وأدخل حارة قديمة، خالية من كل شيء، وخاوية على ما فيها، فتتبدَّى لي لوحات فنية نقشت في أسقف بعض المنازل، أو أبيات شعرية كتبت في الجذوع، أو رسومات فنية، بين زهور وأشكال هندسية، تظهر للرائي لوحات بديعة.

في عام 1994م، عام التراث العماني، تم تكليفي من قبل إدارة تحرير جريدة عُمان، بإعداد مادة ثقافية عن مدينة نزوى، حيث ستقام فيها احتفالية العيد الوطني، واخترت الكتابة عن تلك المدوَّنات المنقوشة في شواهد الأحجار، المتناثرة في مقبرة الأئمة، وهي مقبرة مترامية الأطراف، تقع في جهة الغرب من نزوى.

ذهبت إلى زيارة المقبرة، حاملاً معي آلة تصوير، ودفتراً صغيراً أدوِّن فيه ملاحظاتي، وتفاجأت بعشرات الشواهد، تتناثر في ساحة المقبرة، وكأنها ورقات من مخطوط متمزق، ولأول مرة أرى كتابة منقوشة بإتقان، في أصْلاف حجرية، ألواح خضراء تفنَّنَ فيها النقَّاش، فأبدع كتابات محفورة، وبعضها منمَّقة الحواف بزخارف ونقوش، أما النصوص المنقوشة فتتضمن أبيات رثاء، وآيات قرآنية، مع مقدمة يذكر فيها النقاش نسب المُتَوفَّى كاملاً، مختوماً باسم قبيلته، أو القرية التي عاش فيها، ووصايا وأدعية وغير ذلك.

وخلال تلك الزيارة دوَّنت الكثير مما تمكنت من قراءته، بعضه غَمُضَ عليَّ، ولم أستطع قراءته، وبعضه وجدته متأثراً بعَوادي الأيام، وقد فعل الجديدان فيهما فِعْلته، فانطمَست الحُروف، وتكسَّرت الكلمات من بعض الأصلاف، وبعضها ما تزال محتفظة برونقها، وكأنَّ النقاش يدوِّن فيها نصَّه بحبر على ورقة، وليس نقشاً بالمسامير الدقيقة، على صفائح حجرية صلدة، وعدت مشدوها من تلك الشواهد الخضراء الجميلة، التي كانت أشبه بقطع فنية مغروسة عند كل قبر، تنتظر من يأتي فيدوِّنها، فإذا ما تلَفَتْ بقي لها ذِكرٌ في الكتب، فنشَرْتُ ما دونته في مجلة صدرت صبيحة يوم 18 نوفمبر 1993م، ووُزِّعَتْ مع عدد الجريدة، وكانت هدية ثقافية رائعة للقراء، تتضمن مواضيع مختلفة عن مدينة نزوى.

وبعد سنوات من غياب وانشغال بالحياة والعمل الصحفي، تزيد على العشرين عاما، عدت إلى هذه المقبرة من جديد، فلم تكن الأصلاف والشواهد الحجرية كما عهدتها سابقاً، وليست كما تركتها في برَاح الفناء وبساط الموت، تنتصب على رؤوس الموتى، كأيادٍ متحجِّرة تلوِّح برسائل وداع، فبحَثتُ عمَّا كنت أعرِفُ موقعه، كمن يبحث عن مفقوداته ولا يجدها، وكانت شمس الضُّحى ترسل أشعتها في أفق الوجود، وبدا قرصها متوهجاً، لكن النسيم العليل المنحَدِر من ضواحي نزوى الخضراء، تُبَرِّد جسم هذه الكائن الضَّعيف، الذي يرصف المقبرة بقدمين متوجِّسَتين، خشية أن يطأ جثامين الأجداد السَّالفين، شَعرْتُ وكأني في ساحة معركة، تتمدَّد فيها أبدان الشهداء والجرحى من حولي، ولا أعني بأولئك الموتى النائمين تحت الأرض، وإنما هذه الأصلاف الحجرية التي تتناثر في السطح، فقد وجَدْتُ بعضها منزوعاً من مكانه، وبعضها مُكَسَّراً، تتناثر شظاياه الباكية، فلا تعرف لأي من القبور ذلك الشاهد، وعدت بدهشتي وحيرتي، وأنا تائه في عالم الموتى.

ويبدو أنه ما احتفظ به الزمان قروناً من السنين ضاع في سنوات، فلعل هناك من قام بتكسير الأصلاف، وهذا فعل لا مبرر له، سوى عدم الإحساس بأهمية هذه الآثار، المتبقية من فن النقش في الصخور، والزخرفة في الألواح الحجرية، التي يعود بعضها إلى القرن العاشر الهجري، فمن اعتدى على هذه التحف الفنية؟، ومن سمح له بتكسيرها إن كان بفعل فاعل؟، ولماذا اجتُثَّتْ من فوق الأرض فما لها من قرار؟، فهي ليست أشجارٌ خبيثة، بل تدوينة أدبية رائعة، لإنسان ذلك الزمان، تلتمس الدعاء بالرحمة، للنائم تحت الأرض، أسئلة لا تبحث عن إجابة، فهي واضحة ومعروفة ومتوقعة، وما تُرِك هَمَلاً بلا حماية حتماً سيأتي من يَعتدي عليه، وهذا الحال يتكرَّر مع باقي تراثنا الخصب والمتنوع، لأنه بحاجة إلى تسجيل وتوثيق، واستخدام كل الأساليب التي من شأنها الحفاظ عليه، كالتصوير، وصيانته من الاعتداء، وزيارته بين الحين والآخر، للتعرف على ما يستجد له، للقيام بواجب المحافظة عليه.

وتحتفظ جدران المساجد والجوامع الأثرية، بتدوينات شعرية، وتوقيعات وتوثيقات، لأحداث عاشتها البلاد خلال القرون الماضية، وكم من تدوينة كشفت عن حدوث أنواء مناخية، تسببت في هدم المنازل، وأخرى توثق وفاة شخصية ثقافية أو سياسية، كالفقيه والإمام، وغيرها من التدوينات المهمة، تُكتب على جدران المنازل، وبعضها قصائد شعرية، تخالج الأفكار والمهج.

في زيارة سابقة لجامع بهلا الأثري، وقفت على عشرات التدوينات، في الجدران والأعمدة الداخلية، وبعد الترميم، باق منه القليل، وضاع منه الكثير، وهكذا حال الترميم لأي معلم متداع ومتصدع، وكذلك جدران مسجد المزارعة في نزوى، المليء بالكتابات الجدارية.

في كتابه: “الكتابات في المَساجد العمانية القديمة”، قرأ الباحث الإيطالي بلديسيرا نقشا محفورا في لوح خشبي، معلقا في المكان المخصص للوضوء، بمسجد السُّوق بولاية نخل، وذكر أن النص المحفور في العارضة الخشبية، هو للآيتين الكريمتين: رقم 18 و19 من سورة التوبة، وقد وَصَف عمل النقاش أنه (خيرُ شاهِد على إيمَان مَن أنجَزها وصَبْرِه).

وفي العام الذي كنت أعدُّ فيه مادة كتابي “وحي المحاريب”، ذهبت إلى هذا المسجد، ودخلت مكان الوضوء، ولكني لم أجد العارضة الخشبية تلك، يبدو أنه تم التخلُّص منها بتسقيف الميْضأة، وتأسفت على ضياع قطعة من التراث الخطي المحفور في الخشب، توثق شكلاً من أشكال الكتابة على الألواح الخشبية، وتوجد المئات مثل هذه الألواح المزينة بالكتابات الخطية والزخارف، ولكنها في الغالب يتم التخلص منها، وخلال تلك الزيارة تعرَّفت على نقش خطي آخر محفور في عارضة خشبية، في مسجد “حارة مسِلْمَات” بولاية وادي المعاول، توثق الانتهاء من بناء الجامع، وذلك في شهر شعبان من عام 1366هـ.

وفي زيارة لحارة قرية “مقزَّح” القديمة في محافظة الداخلية، وقفت على كتابة محفورة في أحد أبواب بعض المنازل، وهي من الكثرة بمكان في أبواب الحارات، ومن يزور “حصن بهلا” سيلفت نظره نص شعري محفور في الباب الرئيسي للقلعة، يوثق أن الباب صُنع في عهد الإمام أبي العرب بلعرب بن سلطان اليعربي (ت: 1105هـ)، وفي الوحدة السكنية التي تعرف بالبيت الحديث داخل الحصن، يلفت الزائر انتباهه تلك القصائد المحفورة في الأبواب، نقشت في عام 1115هـ، في فترة حكم اليعاربة، وقد كتبتُ عنها مادة مفصَّلة في كتابي “المشرب العذب”.

وكذلك من يزور حارة العقر، سوف يلاحظ النقوش في ألواح الأبواب الخشبية، بين قصيدة شعرية أو آية قرآنية كريمة، أو توثيق لاسم صانع الباب.

فهل نعي أهمية هذا التراث، الذي يمثل شكلاً من أشكال الحَضارة للإنسان العُماني؟ هل نعي أن الحفاظ عليه واجب وطني، وتضييعه يمثل خسارة فادحة، لأن بقاءه قد يضيف جملة مفيدة في كتاب التاريخ، وبضياعه تضيع تلك الجملة، ويضيع معه جهد إنساني كبير.

وكما اعتدت في كل إضمامة أكتبها، أُلمِحُ إلى بعض الكتب التي دَرَسَتْ هذا الموضوع الذي أكتب عنه، من بينها كتاب: “مقبرة الأئمة” للباحث خالد الخروصي، والباحث محمد السيفي في كتابيه: “التاريخ المحفور على شواهد القبور” و”الحلل السندسية من الكتابات المسجدية”، وفي هذه الكتب مادة ثرية بالمعلومات التفصيلية والصور الضوئية، والنصوص الأدبية شعراً ونثراً، إلى جانب نصوص أخرى دينية.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/أضاميم-مدونات-الأحجار-والجدران-والأخشاب-وما-بقي-منها