أضاميم .. لا يزال الشعر العماني مضيئًا بحب الرسول

لا يزال السِّراجُ مضيئًا بنور الحُبِّ، والشعر ينفح عطره في محبة رسول الله، منذ الأمد البعيد لشاعر الرَّسول الأول: حسَّان بن ثابت، الذي تناقلت الأجيال شعره، وحتى آخر قصيدة يكتبها شاعر معاصر، ومواكب الشعراء تسير في هدي المديح النبوي، مستمدة إشراقاتها من ذلك الفيض النوراني الذي لا ينضب، وقبل يومين احتفت السَّاحة الثقافية في عُمان بفوز الشاعرة بدرية بنت محمد البدري، المشاركة في مهرجان «كتارا» لشاعر الرَّسُول، في دورتها لهذا العام، فكانت أول امرأة تفوز بهذا اللقب، فسرى صوتها في الأنحاء، ونشر الإعلام الخبر، وسمعنا الشاعرة وهي تقرأ القصيدة، وكأنَّ الخنساء الشاعرة تنقل سرَّها من جيل إلى جيل، وفوز الشاعرة البدرية يُبْقي مِشْكاة نور المديح النبوي مُشِعة في الآفاق، ويُشغل الناس بصوت جديد، لامرأة تسعى وراء النور المنبعث من قنديل الغار.

ومنذ دورته الأولى 2016م، استفتح مهرجان كتارا لشاعر الرَّسول، الذي تنظمه المؤسسة العامة للحي الثقافي «كتارا» بقطر، بفوز الشاعر العماني جمال بن عبدالله المُلا، عن قصيدته التي حملت عنوان «النبي»، حصدت المركز الأول: (أنسَلُّ مِنْ عَتمَةِ المَعْنَى أَغِيْبُ سُدَى .. خَلَعْتُ نَعْلَيَّ لا ظِلاً وَلا جَسَدَا)، وقد انسلَّ إلى المشاركة في ذلك المهرجان، وحققت قصيدته المركز الأول.

ولم يغب الشاعر العُماني عن المراكز المتقدمة في هذا المهرجان، إلا بقدر ما تسمح الجائزة، وتفسح مجالاً لصوت شِعري جديد، وبين هذه الأعوام الخمسة يفوز الشاعر حمود المخيني، بالمركز الثالث بقصيدة من الشعر الشعبي، في الدورة الرابعة الماضية، مؤكدة على عذوبة صوت الشاعر العماني، وبهاء حضوره.

وليس بمستغرب فوز شاعر عماني في مهرجان كتارا، فالأصلاب العُمانية تنجب الشعراء متوقدي الذكاء وواسعي الخيال، مثلما الأرض الخصبة تنبت أشجارًا مثمرة، ومثلما تَغَنَّى الشاعر العُماني المعاصر بحُبِّ النبي، كان للشعراء السابقين في العصور الماضية قصائد كثيرة كُتِبَتْ بحبر المَحبة، ليدخلوا معًا عرصات المديح النبوي، يجمعهم نسب الشعر، إذ المحبة رحاب واسعة، وتتسع لها الأرجاء، وإحساس ناعم لا نراه، ينبع من أعماق الأعماق.

قصيدة (قنديل من الغار) للشاعرة العمانية بدرية البدري أدهشت كتارا، بلغتها المشعة بألق المحبة النبوية، قنديل من الغار، ما أعذب هذا العنوان، لأنه يذكِّر بغار حراء، الذي نزل فيه أول شعاع من القرآن، ومنه أشرقت شمس الهدى في الوجود، مُبددة العتمة الدامسة التي كان يعيشها العرب بجهالاتهم في جاهليتهم.

قنديل من الغار، وتستفيق في الذهن تلك اللحظات التي كان فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يتردد حَائِراً في جنبات جبل حِرَاء، وإخاله يدخل الغار، فيتلمس موضع قدميه الشريفتين، وإذا بوجهه الشَّريف قنديل يشع بنور الله، فقد هبط الوحي عليه، وأهداه سورة من القرآن، أبصرت بها الدنيا، وأبصر العالم معها.

قنديل من الغار، صورة شعرية سمت فوق الحقيقة بتجلياتها، وها هي الشاعرة بدرية البدري تصف تلك اللحظات المؤنِسَة، في تجليات صُوفية، ينبعث نورها من مشكاة القرآن، من أول شطر في قصيدتها: (اخْلعْ جِرَاحَكَ بالسَّطرِ المُقدَّسِ..)، ومضة تعكس انغماس الشاعرة في النور القرآني: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ): سورة طه: 12، والشطر الثاني من بيتها السادس: (ارْكُضْ بقلبِكَ تلقَ الأرضَ مُغتَسَلا)، يقابله في القرآن الكريم: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ): سورة ص: 42:

اخْلعْ جِرَاحَكَ بالسَّطرِ المُقَدَّسِ، لا

يَصُدُّكَ الذنبُ عَنْ وَحْيٍ بكَ ارْتحَلا

واصْعَدْ إلى السِّدْرَةِ العُليَا بلا حَذَرٍ

مِنْ دَافِقِ العِشْقِ إنْ نادَاكَ وانهَمَلا

هُناكَ تَنمُو على الأشْواكِ نَرْجَسَةٌ

تؤرْجِحُ العِطرَ في أورَاقِها أمَلا

وتَستكينُ إلى الأقلامِ قافيةٌ

لولا مُحَمَّدُ ما أهْدَتْ لها الجُمَلا

وبينما كنت مُنتشيًا بقراءة قصيدة الشاعرة بدرية البدري، إذا بجيل من الشُّعراء العُمانيين يستيقظون في ذهني، شعراء كبار كتبوا قصائد في الجناب الأعظم والمشكاة البشرية، ذات النور الذي يتردد وميضه في الكون، أولئك الشعراء لهم قلم السبق في هذا الميدان، وإن لم تشهد لهم كتارا بذلك، ولم يتردد صوتهم في المهرجان، ولم تذكُرُهم الدراسات الأدبية الخاصة بأدب المديح النبوي، هؤلاء الشعراء كتبوا تقرُّبًا من الجناب الأعظم، كما يصفه الشاعر الكبير ابن شيخان السالمي، في قصيدته التي استفتح بها ديوانه الشعري، وفي هذه الإضمامة أكتب عنهم، وعن قصائدهم المُشرقة بحُبِّ الرسول، محاولة للقاء بينهم تحت سدرة الشعر الخالدة.

1 – الشاعر الحبسي، راشد بن خميس بن جمعة (حَيٌ في عام: 1737م)، شاعر ضَرير، له ديوان مطبوع، يجمع بين أغراض شعرية مختلفة، وفي المديح النبوي كتب الشاعر الحبسي 28 قصيدة، ولعل هناك قصائد أخرى لم يضمها ديوانه الصادر عن وزارة التراث القومي الثقافة 1982م، 28 قصيدة في حب الرسول، من أجل أن تخصب القرية، وتتحول الفصول الأربعة إلى ربيع واحد:

وَمِلتُ إلى مدْحِ النبيِّ محمَّدٍ

وكنتُ سَميعًا للرَّسول مُطيعا

فإن أمْدَحَنْه يُخصِبُ الغيثُ بَلدَتِي

إلى أنْ أرَى كُلَّ الفصُولِ رَبيعًا

وفي قصيدة أخرى، يشمُّ الشاعر الحبسي ريح السرور، التي تهب سَحَراً، حاملة معها أريجاً من أرض طيْبَة، لذلك فنفحاتها تشفي القلب المَكلُوم:

هَبَّتْ لنا رِيح ُالسُّرورِ نسِيمَا

فشَفَتْ أسَىً تحتَ الضُّلوعِ مُقيمَا

أهدَتْ لنا مِنْ أرْضِ طيبةَ نَسْمَةً

نفحَاتُها تشْفي القلوبَ الهِيما

طابَتْ خَواطِرُنا بها فَكأنَّها

صَهْبَاءُ كانَ مِزاجُها تسْنيمَا

2 – أبو مسلم البهلاني، ناصر بن سالم بن عديِّم (ت: 1920م)، الشاعر السُّلوكي الشهير، وصاحب الابتهالات والقصائد الإلهية، له في المديح النبوي ست قصائد، عالم مختلف من الجَمَال والجَلال، وفيضٌ نوراني، يمتاحه من ذلك القبس الوقاد الذي لا ينطفئ، باق يضمِّخ الوجود، ومن سحائب بركاته تخضرُّ الحياة، لتصبح مونقة ومورقة، وها هو أبو مسلم، يطلقها استغاثة عِرْفانيَّة بـ(غَوْثِ الوُجُود)، فقد ضاقت عليه الحياة، ويناجي (سر الوجود)، ليستلمه من يد الخطر المُحدِقة، ويطلب من (نور الوجود) أن يتداركه، فقد عميت بصيرته في الظلام الدامس:

غَوْثَ الوُجُودِ أغِثنِي ضَاقَ مُصْطَبَرِي

سِرَّ الوُجُودِ اسْتلِمْنِي مِنْ يَدِ الخَطَرِ

نُورَ الوُجُودِ تَدارَكنِي فقدْ عَمِيَتْ

بَصِيرَتِي في ظَلامِ العَيْنِ وَالأثَرِ

رُوْحَ الوُجُودِ، حَيَاتِي إنها ذَهَبَتْ

مِنْ جَهلِها بيْنَ سَمْعِ الكوْنِ والبَصَرِ

وتسير القصيدة على وتيرة واحدة في 184 بيتًا، تتصاعد إلى الأعلى ولا تهبط، محلقة في الأفق الشعري بلغته السامقة، وبروحه الشعرية الفريدة التي لا تتكرر، فأبو مسلم يقف في المعارج العليا بين شعراء المديح النبوي.

3 – شيخ البيان محمد بن شيخان السالمي (ت: 1927م)، له قصيدتان في الجناب الأعظم، تتصدر ديوانه الشعري المطبوع، الأولى همزية تتألف من 19 بيتًا، والثانية مقطوعة في خمسة أبيات، وفي همزيته الرقيقة، يَشتعل وجدانه بهوى الحجاز، وقد طالت به وقفته في رمضاء القطيعة:

لِهَوَى الحِجَازِ بأفقِ قلبِي مَبْدَأُ

فلِذا يَعُودُ لِيَ الغَرَامُ وَيَبْدَأُ

صَبٌ يَحِنُّ إلى الحِمَى فَشُجُونُهُ

تَرْقَى وَحُمْرُ دُمُوعِهِ لا تَرْقَأُ

طالتْ بِرَمْضَاءِ القَطِيعَةِ وَقفَتِي

فمَتى برَوْضَةِ حُسْنهِم أتَفيَّأُ

4 – أمير البيان، عبدالله بن علي الخليلي (ت: 2000م)، في ديوانه «وحي العبقرية» الصادر عن وزارة التراث القومي والثقافة عام 1978م، له قصائد في المديح النبوي منها: «مجلى الأنوار»، و«علم النبيين»، ومن قصيدته «بين القبر والمنبر»، نقرأ هذا النسج الحَريري في البُرْدَة الخليلية:

بَيْنَ الرَّياضِ وبَيْنَ الرُّوحِ والنَّغَمِ

حَقُّ الأبُوَّةِ في موصُولةِ الرَّحِمِ

وبَيْنَ مضْجَعِ مَنْ أهْوَى ومِنبَرِهِ

رَوْضٌ مِنَ الخُلْدِ لمْ يُورِقْ وَلمْ يَقُمِ

رَوْضٌ مِنَ الخُلْدِ مَنْ يَعْلقْ بدَوْحَتِهِ

يَعْلقْ بطُوبَي وَمَنْ يَعلقْ بها يَهِمِ.