من المنعطف الشكلاني إلى الثقافي.. المقارنات ومفهومها وما بعدها
في مواصلة لفعاليات صالون الأربعاء التي تنظمها لجنة الدراسات والفكر بالجمعية العمانية للكتاب والأدباء، أقيمت عبر الاتصال المرئي، محاضرة الحلقة الخامسة للدراسات الثقافية بعنوان: «الدراسات الثقافية بصفتها أدبا مقارناً جديداً».
قدمت المحاضرة الدكتورة فاتحة الطايب الأستاذة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية، حيث تناولت 3 محاور أساسية أولها: محور الأدب المقارن من المنعطف الشكلاني إلى المنعطف الثقافي، وثانيها: محور آلية المقارنة بين حقلي الأدب المقارن والدراسات الثقافية، فيما خصصت المحور الثالث والأخير لمفهوم المقارنة الجديدة وما بعد المقارنة.
في بداية حديثها لفتت الدكتورة فاتحة الطايب إلى أنه من خلال المحاور الثلاثة التي تغطيها المحاضرة سيتضح أن الآداب ومجالات التعبير الإنساني باختلاف أشكالها تخضع هي الأخرى إلى التقسيم التراتبي الذي تخضع له دول العالم لكي تتحكم في علائق القوى فيما بينها حيث نجد فيها العالم والثالث ودور المقاومة في إعادة بعض التوازن لهذه العلائق.
ثم ذهبت في حديثها إلى تناول المحور الأول بشأن الأدب المقارن من المنعطف الشكلاني إلى المنعطف الثقافي، موضحة أنها تتطرق لهذا المحور من خلال عنصرين يتعلق الأول بما اسمته بالمركزية «الاورو أمريكية»، فيما أسمت العنصر الثاني بعنصر «الهوامش القديمة -المراكز الجديدة».
وفيما يتعلق بإطار المركزية الأورو أمريكية، أوضحت فاتحة الطايب بأن الأدب المقارن في فرنسا وأوروبا تطور في تزامن مع اكتساح الإمبريالية الأوروبية وثقافتها لخريطة العالم، في وقت رأى فيه بعض الفلاسفة بأن الأدب المقارن الذي ركز في البداية على مفهوم الائتلاف دون الاختلاف تأثر بمركز ومكانة فرنسا في أوروبا والعالم بشكل عام حيث مجدت أبحاثه العظمة الثقافية لفرنسا.
مؤكدة على أن الهوس بتلك الرؤية الداعية إلى أن يعم السلام في أوروبا ظل منعكسا على الأعمال المقارنة الفرنسية التي كانت تحتفي بمفهوم التأثير القائم على السردية إلى حدود إعلان هنري رماك مؤسس المدرسة الأمريكية في الأدب المقارن عن أزمة الأدب المقارن الفرنسي مناقشا ذلك في المؤتمر الثاني للرابطة العالمية للأدب المقارن الذي انعقد بولاية كارولينا الشمالية في عام 1958.
في هذا السياق أشارت الدكتورة فاتحة الطايب إلى أن تدويل التصور الأمريكي للأدب المقارن في نهاية خمسينات القرن العشرين وبداية الستينات تزامن من انبثاق الدراسات الثقافية بصفتها تحولا ديمقراطيا للعلوم الإنسانية وإبدالا جديدا أي توجها نحو ترسيخ جدلية الأدب والثقافة بجامعة برمنجهام بالمملكة المتحدة على يد ثلة من أساتذة الأدب الإنجليزي وعلم الاجتماع بينهم الدكتور ريتشارد بوكارد ورايموند وليامز وغيرهم من الذين استهدفوا تقريب الثقافة التي تدرس في الجامعة إلى المرجعيات الثقافية لطلابهم.
مشيرة إلى وصف الأدب المقارن تاريخيا بأنه دراسة للأدب خارج حدود دولة معينة وهو أيضا دراسة للعلاقات بين الأدب من ناحية وبين شتى فروع المعرفة والعقيدة والفنون كالعمارة والموسيقى والفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها ، كما أنه مقارنة بين أدب وآداب أخرى أو المقارنة بين الأدب من جهة وبين مجالات التعبير الإنساني من جهة أخرى.
منوهة إلى أن التصور الجمالي للأدب المقارن بخلاف الدراسات الثقافية التي تعد طريقة جديدة لمقاربة المجتمعات الثقافية عن طريقة معارضة التصور النخبوي للثقافة وتجاوز الحدود المؤسساتية بين شتى المجالات والتخصصات، يعتبر تصورا يسهم في إقصاء السياق والتاريخ بفعل تأثير الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
وأوضحت بأن المنظور الأمريكي للأدب المقارن ركز على خدمة منطلقاته السياسية الهادفة لخلق تآلف عالمي يتخطى الحدود القومية على ضوء نموذج المؤلفات الغربية العظيمة التي تخطت حدود الزمان والمكان وذلك استنادا إلى قدرتها على إطفاء العنصر الإنساني عبر محو الاختلافات الثقافية.
مشيرة إلى أن المفارقة تكمن في أن تبني المقارنين الأمريكيين للتصور الشكلاني للأدب المقارن قد تم بالتزامن مع ظهور الأنثروبولوجيا الثقافية في شمال أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية ، مما يعني دون أدنى شك توظيف مصطلح الثقافة في مؤسسات وخطابات العلوم الإنسانية بالولايات المتحدة الأمريكية مثلما بلور مفهومه رواد آخرون مثل البريطاني ادوارد تايلور، حيث من بين التخصصات التي تملكت هذا المفهوم تخصص علم الاجتماع الذي يعنى بدراسة الثقافات المحلية لمختلف الجماعات الحضرية وتحليل ظواهر المثاقفة والاندماج الثقافي عند المهاجرين، ونخص هنا بالذكر مدرسة شيكاغو والمدارس الثقافية الأمريكية الأخرى المماثلة.
وأشارت إلى أنه في النصف الأخير من عقد الستينات حدث تغير للنسق الثقافي الأمريكي بشكل كبير بفعل حصول تحولين عظيمين متداخلين، يتمثل التحول الأول في حصول المستعمرات الإمبراطورية القديمة على الاستقلال وما أعقب ذلك من ظهور أصوات المقومات الثقافية وظهور دراسات غايتها الأساسية «دمقرطة» الثقافة الإنسانية بواسطة الحد من الهيمنة المركزية الغربية في مقابل التركيز على خصوصيات الآداب القومية.
أما التحول الثاني فهو يتمثل في انتشار «التاريخانية» الجديدة في أوساط المثقفين إضافة إلى الحركات النسائية والمقاومة من أجل حقوق السود المدنية والاعتراض على حرب فيتنام ، حيث أسهم هذا التحول في الانفتاح على منظور الدراسات الثقافية بفضل أبناء المستعمرات السابقة في وقت اهتم فيه المقارنون الأمريكيون، الذين واكبوا التطورات المعرفية التي صاحبت الدراسات المقارنة، بنصوص وأشكال تعبيرية من مختلف الثقافات داخل سياقاتها السياسية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية.
وحول المحور الثالث بشأن «مفهوم المقارنة الجديدة وما بعد المقارنة»، قسمت الدكتورة فاتحة الطايب هذا المحور إلى قسمين هما المقارنة الجديدة وما بعد المقارنة على مستوى العالم ، والمقارنة الجديدة وما بعد المقارنة عربياً، موضحة بأن «الما بعدية» لا تعني وجود قطاع فاصل بل تعني تصحيح المنظور.
وبشأن المقارنة الجديدة على المستوى العالمي قالت: يرى بعض الفلاسفة بأن الأدب المقارن في أحد مفاهيمه قد انتهى ومات حيث ساعد على انتهائه عدم جدوى المدخل اللاتاريخي وقصر نظر المدخل الذي يعتبر الأدب قوة لنشر الحضارة عالميا ، منوهة إلى أن الأدب المقارن مازال حيا في أشكال أخرى مثل عمليات إعادة التقييم الجذرية للنماذج الثقافية الغربية التي تتم حاليا في أجزاء عديدة من العالم ، وفي ارتفاع حدود الموضوعات الأكاديمية من خلال إدراكات منهجية جديدة قدمتها العديد من الدراسات مثل دراسات النوع المدرجة ضمن الدراسات الثقافية ودراسات عمليات النقل من الثقافات في إطار عمليات الترجمة.
موضحة بأنه تقف وراء المزاوجة بين الجوهر المتطور للأدب المقارن وجوهر الدراسات الثقافية إسهامات رواد دراسات ما بعد الاستعمار ومنها دراسات التابعي والمجال والتي منها إسهامات إدوارد سعيد وجياتري سبيفاك وغيرهم.
وفي حديثها عن المقارنة الجديدة وما بعد المقارنة عربياً دعت الدكتورة فاتحة الطايب الى التأمل في مواضيع حلقات العمل العربية في المؤتمرات الأخيرة للرابطة العالمية للأدب المقارن، مشيرة إلى أن المؤتمر العشرين للرابطة العالمية للأدب المقارن الذي انعقد بجامعة السوربون بفرنسا عام 2013 شهد انعقاد أول حلقة في تاريخ مؤتمرات الرابطة العالمية للأدب المقارن نظمتها جامعة القاهرة تحت إشراف المقارن المصري الراحل الدكتور أحمد عثمان وكانت بعنوان «الربيع العربي وآفاق الدرس المقارن العربي».
أما الحلقة العربية الثانية فقد نظمتها كل من جامعة محمد الخامس وجامعة القاهرة ضمن فعاليات المؤتمر الثاني والعشرين للرابطة العالمية للأدب المقارن الذي انعقد بجامعة مقاو بالصين، حيث كانت الحلقة بعنوان «الأدب المقارن وتداخل الاختصاصات: اتجاهات جديدة في الدراسات العربية».
ونوهت إلى أن المؤتمر المقبل للرابطة العالمية للأدب المقارن الذي سينعقد في تبليسي بجورجيا ستشارك الجامعات العربية بموضوع حول (نصوص ومنظورات عبر أنواع ووسائل الإعلام في سبيل إعادة التفكير في التاريخ الثقافي العربي) بتنظيم جامعة القاهرة وجامعة محمد الخامس والجامعة الأمريكية بالشارقة وجامعات عربية أخرى ، واصفة موضوعات حلقات العمل –- العربية بأنها موضوعات مواكبة لتطور الحقل المقارن على المستوى العالمي ومواكبة للتداخل بين الأدب المقارن والدراسات الثقافية.
وأكدت أن المقارنة الأدبية في الحقل الثقافي العربي تعيش مفارقة بالنظر إلى تعدد مظهرها المتصل اتصالا وثيقا بدرجة المواكبة وبتقاليد لغات الكتابة والقراءة المتعددة في المنطقة العربية، مما أسهم في وجود التفاوت بين مستويات النقاد والمقارنين العرب في علاقتهم بالحقل النقدي والمقارني العالمي، وذلك في وقت ظهرت فيه أسماء وازنة في تخصيب المشهد المقارني والثقافي العربي من زاوية نقدية ، حيث إن الأغلبية من تلك الأسماء تقف على أعتاب الحقل النقدي والمقارني لتبرز جنبا إلى جنب كبار المفكرين والمقارنين الغربيين فأصبحوا مراجع عالمية في مجالاتهم وذلك في ظل تعدد لغات الكتابة في البلدان العربية.
https://www.omandaily.om/ثقافة/na/الكتاب-والأدباء-تستعرض-الأدب-المقارن-من-منطلق-ثقافي-في-3-محاور