ماذا قال القراء الذين رأوا كتبهم عائمة ومدفونة في الطين بعد هدوء العاصفة؟!

كتب ثمينة ونسخ نادرة ذهبت مع الطوفان الأخير
    • «كنت أصطاد كتبي من مياه الوادي وهي تقطر طينا وماء»
    • «لا يوجد كتابٌ واحدٌ ناجٍ»
    • «أصبحت كتلةً ترتدي اللونَ البُني لا أكثر»
    • «فقدت أصدقاء وحضارات وبلدان»
    • «هل ما حصل لرواية الخلود هو ذاته الخلود الذي يقصده كونديرا؟!»
    • «كتبي التي استعارها الأصدقاء وحدها التي لم تكن من ضحايا الطوفان»

رجاء وسالم وعبير ونوف وعائشة، استيقظوا في الثالث من أكتوبر ليجدوا مكتباتهم مدفونة في الطين، وكتبهم تسبح في الأرجاء التي غمرتها المياه، كان هؤلاء وآخرون لم نلتقِ بهم يصطادون كتبهم من المياه البنية ويتركونها على النوافذ، يرقبونها حتى تجف، بحثا عن سبيل لإبقائها وإحياء الروح الدفينة التي تجمع بين المرء وكتبه.

    • ساعة الغرق

يقول سالم الحوسني واصفا ما حدث ساعة الغرق: جاء طوفانٌ وأغرق الحي بمن وبما فيهِ، حفر الأرض وانتزع الجثث! فكيف لا ينتزعُ «أشيائي الحبيباتِ»!، ليلةٌ لن ينساها كُل من عاشوها، لم أنقذ شيئاً، غرقت الكتبُ مُغرِقَةً معها الأرواح التي تسكنها، والأيام التي قضيتها كاملةً وأنا أهيمُ بينَ صفحاتها، ذهبت العناوينُ أدراج الغرق لا الرياح!

وتصفه عبير الحوسني التي غادرت منزلها قبل ذلك بقولها: أتذكر بأن رواية الخلود التي كنت بصدد الانتهاء منها كانت فوق السرير، ولما بدأت الأمطار بالتساقط تذكرتها وعدت من منزل أختي القريب من منزلنا لكي أضعها في الخزانة حتى تكون بأمان كما كنت أعتقد.

وتقول عائشة السعيدية: لم أشاهد ما حدث، ولكنني شعرت به مع ارتفاع منسوب الماء في كل أرجاء المنزل، فورا خطرت الكتب والمكتبة على بالي، لكن كان من الصعب أن أصل إليها في لحظتها، بسبب الارتفاع السريع والمفاجئ في منسوب المياه، وحتى لو وصلت إليها، ما الذي يمكن أن أفعله؟! لا شيء.

    • ما بعد العاصفة

تقول رجاء السعيدية التي فقدت أكثر من ٢٥٠ كتابا: كنت أملك ٤٦١ كتابا، كان منها ٢٧ كتابًا جديدًا لم أقرأها بعد، وبعض من كتبي المهداة من أصدقاء وزملاء، ذهبت كلها، ٤٢ كتابا هو كل تبقى، كان المشهد مؤلما لم أستطع أن أرى جزءا من حياتي يذهب دون سابق إنذار، وكان إخوتي يقولون لي ذهبت كتبك، لم تعد تصلح.. اختلطت مع الطين والماء، أنقذوا منها القليل الذي كان في الرف العلوي من المكتبة، أما الكتب التي في صندوق السيارة بمجرد فتحها وانتشال ما فيها تمزقت وتحللت.

ويعبّر سالم عن المشهد بقوله: إن صحَ التعبير لقد فقدتُ جميعَ تذاكري، فالكُتُبُ جعلتني أسافرُ مرارًا، عبرتُ شوارع دمشق وأنا مُحاطٌ بالياسمين، توقفتُ في إسبانيا كثيرًا، وكم على مدخل الحمراء كان بالشِعرِ لقائي!، زرتُ فيينا وسمعتُ أجملَ ما عزفتهُ الشوارعُ هُناك، فبغرق المكتبة أصبحتُ لاجئا في منافي الذكريات! اليوم أجرُ معي عبئًا ثقيلًا جدًا، أجرُ بلدانا بعد أن أقمتُ فيها، أجرُ الزوايا والأُغنيات.

وجدتُ المكتبةَ مثلي، مرت العاصفةُ عليها بينما مرت خلالي، لا يوجدُ كتابٌ واحدٌ ناجي! جميعها أطلقت نداء استغاثةٍ غير مسموع، أخذتها وتركتها لتجف على النافذة، أصبحت كتلةً ترتدي اللونَ البُني لا أكثر.

أما نوف المخمرية فقالت: كان شيئا يعجز اللسان عن وصفه، كانت مشاعر القهر والخوف والقلق سيدة الموقف، كتبي، خططي لتوزيعات القراءة، جداولي، كل شيء ذهب وأنا مكتوفة اليدين، ليس بوسعي فعل شيء سوى إنقاذ نفسي من المياه التي تغمر المنزل.

وتابعت قائلة: بعد هدوء العاصفة ذهبت لأتفقد أحوال المنزل وبالأخص عالمي أو مكتبتي صعقت وأنا أرى أوراقا هنا وغلافا هناك وكتابا هنا والآخر هناك وبعضهم لم أر له أثر حتى.

أما عبير الحوسنية التي فقدت حوالي ٤٠ كتاب، قالت: عندما هدأت العاصفة وانخفض منسوب الماء توجهت مباشرة للكتب، لقد تسمرت للوهلة الأولى أمام عتبة الباب لأرى أن كل شيء لم يعد في محله، كانت أدراج الخزانة مفتوحة، وبعض الكتب ما زالت في الأدراج، ولكنها ممتلئة بالطين والماء، وبعض الأوراق ممزقة والبعض الآخر تحت الأنقاض والأثاث المتحطم.

تحكي عائشة التي فقدت قرابة عشرة مصاحف بعضها أثري في خطوطه وكتاباته ونوعية ورقه إضافة إلى قرابة 100 كتاب وعدد لم تحصه من المجلات المتنوعة ما بين علمية وثقافية ودورية، وقرابة 50 قصة من قصص الأطفال باللغتين العربية والإنجليزية، وعدد لم تحصه أيضا من المفكرات الدراسية الشخصية، وقرابة العشرين مجلدا من المنشورات الوثائقية العمانية في مجالات عدة الغنية بالصور الملونة والنادرة، تقول: وجدت المكتبة قد غرقت في مياه الوادي المليئة بالطين والوحل، وكلما حملت كتابا كان يقطر ماء وطينا، كان مشهدًا لا يوصف، ولم يخطر لي أن أعيشه يوما.

    • ماذا يعني فقد المكتبة؟!

سألت سالم ورجاء والأخريات عن ما الذي يعنيه فقد المكتبة؟ فقال سالم: إن يملك المرءُ مكتبة، هو أن يكبر المرءُ حاملًا قصيدةً في صدره، المكتبةُ لم تكن جماداتٍ وورق، بل كانت قصيدتي الدافئةُ التي حملتها في صدري قبل أن تحمل الأرففُ الكُتُب، يستغرق المرءُ أجمل لياليهِ مسامرًا الأبجدية، منصتًا لكُلِ آنة، وكم قضيتُ شتاءاتِ عُمري على الشُباك، أتوسد كتابًا وامتطي قلمًا في الميدان، بالقراءةِ روضت كُلَ أحاسيسي، جعلتني أعرفُ كيف أصبح الشاعر والكاتب الذي لم أتعمد أن أكونه، كانت المكتبةُ رحمًا منيرًا أنجبني، صافحتُ هناك العديد من الأرواح، عاشوا معي و شاركوني السقفَ ذاته.

وأضاف: بغرق المكتبة، غرقَ مني جزءٌ من الأبجدية، كيف أكتبُ ما حدث وأوراقُ روحي مُبللة! الأمرُ أشبهُ بأن يمر الطوفانُ وينساك، تبقى الذاكرةُ هي العزاءُ الأخير، أقلبُ في صفحاتها ذكرى أول كتابٍ اقتنيته، وأتذكرُ جيدًا بأنهُ ديوانٌ لكاتبي العزيز «نزار قباني»، كُنتُ حينها في العاشرة من عُمري، نشوةُ الطفل الحالمِ باقتناء المزيد رافقتني حتى قبلَ حدوث العاصفة، سيظلُ اسم «شاهين» مختومًا على أصابعي، أذ أنني في كُل مرةٍ سأحاولُ فيها الكتابةَ لأنسى سأتذكر.

أما نوف المخمرية وصفت ذلك بقولها الموجز: فقدت ٩ أصدقاء، حضارات، بلدان، ثقافات، قصصا، واقعا، عقولا، أو ٩ كتب (لن نختلف في المعنى).

فيما تقول رجاء: فقدان كتبي جعلني أشعر بأني فقدت شيئا عظيما في حياتي، كان انكسارًا مؤلمًا لدرجة أني غير قادرة على تخيل أن كتبي قد ذهبت.

وتقول عبير: خسارة كتبي بالنسبة لي بمثابة خسارة كنز ثمين، ولا يقل عن ما يعتبره الآخرون ثمينا بالفعل، لقد بدأت بتجميع الكتب من المكتبات أو بالطلب من مواقع بيع الكتب أملًا بأن تكون المكتبة مكتظة بالكتب المفضلة لدي ولو بعد حين، وذلك عندما تعلقت بالكتب الورقية منذ فترة غير طويلة، لأنني كنت أقرأ بصيغة بي دي أف غالبًا، أعترف بأنني شعرت باكتئاب عميق داخلي عندما رأيتها هكذا. وتابعت قائلة: حدقت طويلًا في رباعية مقبرة الكتب المنسية لكارلوس زافون قبل أن أنتشلها من الطين، وشعرت بالأسف عليها لأن متاهة الأرواح تمزقت قبل أن أقرأها، تناولت أجزاء كتب تمزقت فوجدتها تعود لدوستويفسكي فأعدتها لرواية الإخوة كارامازوف وأجزاء أخرى لجورج أورويل من متشرد في باريس ولندن، ثم تفاجأت بالضرر الكبير الذي لحق برواية الخلود بالرغم من حرصي السابق عليها فتساءلت هل ما حصل لرواية الخلود هو ذاته الخلود الذي يقصده كونديرا؟! بعد ذلك وقع بصري على بقايا من كراسة رسم مقاس A3 فتذكرت على الفور الرسامين، فخسارة الفنان للوحاته لا تقل بؤسًا من خسارة القارئ لمكتبته.

وأضافت: ثم تأملت كتب الأدب الياباني وشعرت بالأسف عليها، لأنها كانت من الكتب الأثيرة بالنسبة لي، وأخذت كتابًا آخر يحمل غلافًا أزرق ومسحت الطين العالق على العنوان وقرأت «عَلَتْ الرياح» وقلت بداخلي «لقد عَلَتْ الرياح بالفعل أكثر من اللازم هذه المرة!» ثم تذكرت بأن مجموعة كتبي المستعارة من قبل الأصدقاء وحدها التي لم تكن من ضحايا الطوفان.

    • الكتب الجديدة

في حديثنا عن الكتب الجديدة، كان سؤال: هل التعويض بكتب جديدة هو ما يأمله القراء الآن؟ هل سيسعدهم هذا حقا؟ فكان أن قال سالم: لا كتاب يعوضُ كتابًا آخر، وإن أوتيت بنفس الطبعة، هنالك كتُبٌ كانت من الأحباب، وكتُبٌ ادخرتُ جُهدي كي أحصل عليها! الأمرُ لا يحصرُ تحت مظلة التعويض، وإنما بالقيمة المعنوية، بطريقة الحصول الأولى على الكُتُب وبناء المكتبة، ظللتُ عباراتٍ كثيرة في كُتبي، وذلك كي أتذكر كلما عدت إليها، الآن أصبحتُ مظللاً تحت حُزن فقدها.

أما رجاء التي أكدت أن ذلك سيسعدها، قالت أيضا: لن يعيد لي الشعور بالعنوان الأول، بالكتاب الذي كان يوما من الأيام منقذي ومنفذي وبصيرتي، كان كل كتاب له حكاية، وشعور جميل سيختلف عن النسخة الجديدة التي ستوضع في المكتبة، لكنني من جديد سأحاول أن أجدد الشعور، سأوجد القصص لكل كتاب يأتي من جديد.

وقالت عبير: أعتقد بأن حصول القارئ على كتب جديدة تحمل العناوين السابقة لكتبه المفقودة ستسعده بالتأكيد، ولكن لا أعتقد بأن هذا كل ما يريده، فكل كتاب يحمل ذكرى خاصة بالنسبة له مختلفة كليًا عن حصوله على الكتاب الذي بعده، فمثلًا متعة انتقاء الكتاب من رفوف المكتبات الخاصة ببيع الكتب لا يشبه الشراء عبر المواقع الإلكترونية.

أما نوف ولأن الكتب التي فقدتها قريبة من قلبها جدًا جدًا، قالت إنها ستشعر بشيء من الفرح وهي تراها بين أرفف مكتبتها من جديد.

وتضيف عائشة: بالتأكيد سيسعدني كثيرا ولكن الموضوع صعب جدا، فبعض تلك الكتب من مكتبة أبي (رحمه الله)، وبعضها من التي حملت اسمي واحتوت كتاباتي وبعضها جاءتني هدية من أساتذتي وعائلتي وصديقاتي، وبعضها من كتبي التي كنت أدرسها في أيام الدراسة، الموضوع بصورة عامة ليس سهلًا ومن الصعب تغطيته بتلك البساطة.