خلفان الزيدي:
– أنت عماني ؟
– نعم عماني، ومن مسقط، وأنت ؟
– وأني عماني، من مسقط، وصور، ونزوى، وظفار…
– ما يستوي! كيف تكون من كل مكان؟
– يستوي، يوم تكون عماني بالصدق، تكون من كل عمان.
هذا المقطع المتداول مقتبس من رواية (الباغ) للكاتبة العمانية بشرى خلفان، وقد تجسد صورة حية على الأرض يوم الجمعة الثامن من أكتوبر، حين توافد أبناء عمان من كل حدب وصوب، من الشمال إلى الجنوب، للمشاركة في الحملة الوطنية لدعم ومساندة المواطنين والمقيمين المتأثرين من الحالة المدارية (شاهين)، حملة وطنية تجسدت فيها ملحمة خالدة، ذابت جغرافية المناطق والقرى، وتلاشت المناصب والرتب، وتعالت الهمم، وشمرت السواعد لتعيد وجه الحياة إلى البناء الذي تهدم، وإلى الأرض التي بارت، وإلى الخدمات التي انقطعت.
❋ ❋ ❋
يسألني صديق عربي عن حال عمان، وقد عصف بها إعصار مدمر، وأنواء مناخية عاتية، ويخبرني عن قلقه على الإنسان والشجر والحجر، كان واحدا من أصدقاء كثر انهالت رسائلهم وهي تطمئن على حال البلاد وأهلها بعد (شاهين)، ومثل رسائلهم.. كانت مواقع التواصل الاجتماعي تضج بسيل من التغريدات والمنشورات التي تدعو لعمان، أن يلطف بها الله تعالى في هذه الشدة.
وحين انكشفت آثار الإعصار، كان السؤال يتبادر، كم نحتاج لإعادة ما هدمه شاهين؟، وتنظيف المباني والمنازل والطرقات، وإعادة الخدمات إلى ما كانت عليه؟، وكم من السنين يلزمنا لتجاوز آثار هذه المحنة التي ألمت بجزء عزيز علينا؟، وأي ذاكرة سنحتفظ بها بعد هذه الحالة المدارية؟، وأي صور ستكون معلقة في صفحاتنا؟!.
كانت الأسئلة بحجم الكارثة التي خلفتها الأنواء المناخية، بحجم الألم والوجع الذي أصاب العديد من الأسر من المصنعة وحتى صحم مرورا بالسويق والخابورة الولايتين اللتين كانتا الأكثر ضررا في شمال الباطنة، وقصص واقعة الإعصار تصيبنا بالهول مما حدث.
لكل هؤلاء.. أقول، وقد قالت عمان من أقصاها إلى أقصاها، نحن والحمدلله بخير، لم يفت الإعصار عضدنا، فقبل أن تشتكي (الباطنة) كانت جسد عمان يتداعى من أجلها، وكانت قوافل الخير تمتد بطول الطرق المؤدية إليها.
❋ ❋ ❋
لم نسأل بعضنا البعض من أين أتينا.. فقد كنا جميعنا نترصع باسم عمان، حملنا أدوات التنظيف وانطلقنا إلى المنزل المقصود، لم نسأل لمن يكون، ولا كينونة صاحبه، ولا حتى بحثنا عن أهله، فقد كنا جميعا أهل هذا المنزل، وأصحابه، وكنا نعمل بجد واجتهاد لإعادة منزلنا إلى صورته المشرقة، والجميلة.. نظفنا الغرف والممرات من الوحل الذي غطى كل شيء، اصلحنا ما يمكن إصلاحه من أضرار، واستبدلنا ما تلف من الأثاث والمفروشات، وأعدنا الصورة التي زينت المجلس، إلى وضعها المستقيم.. وكانت فرحة عارمة يوم أعلن قائد الفريق عن انتهاء العمل.
شعرنا حينها بالفرح، ووددنا أن نتقاسمه مع صاحبه.. لم يكن صاحب المنزل بيننا، كان قد انضم إلى حملة تنظيف منزل آخر، وجده أشد ضررا من منزله.
في الاستراحة، ونحن نتبين ملامحنا، ومسقط رأسنا، ونسرد من أي البقاع جئنا، تذكرت رواية الباغ، وحوار زاهر بن علي مع الرجل الغريب.. “يوم تكون عماني بصدق، تكون من كل عمان”.
❋ ❋ ❋
“يا الباطنة لو ضرك إعصار شاهين
جولك شياهن البلد وفزعولك”
لم أسأل ذاتي عن السبب الذي دفع “راعي الجبل الأخضر” ناصر بن عبدالله العمري صاحب الثمانين خريفا، للذهاب إلى الخابورة، كان يمكنه أن يعتذر لبعد المسافة ومشقة الوصول إلى الباطنة، وصحته التي قد لا تساعده.. لكنه كان خلاف ذلك، قالها لكل من سأله: “تريدوني أنام في بيتي مرتاح، والناس تطلب من يساعدها”.
مثل ناصر العمري حمل راعي بدبد عبدالله بن علي بن خلفان الرحبي جسده الذي تجاوز عقده السابع، ملبيا نداء الوطن، ومشمرا عن سواعده مع الشباب والفتية والكهول، الذين شكلوا أسرة واحدة، وعملوا بقلب رجل واحد.
لقد ظهرت معادن الرجال في الملحمة الوطنية الخالدة، كانوا فريقا واحدا، أي كانت الجهة التي يمثلونها، والفريق الذي يتبعون إليه، والبقعة التي قدموا منها، وتماهت رتبهم العسكرية، ودرجاتهم الوظيفية، وما إذا كانوا طلبة على مقاعد الدراسة، أو باحثين عن عمل، فلا فضل لأحد على أحد هنا، كلهم يأتمرون بما يطلب منهم، ويقومون بالعمل الموكل إليهم، وكلهم يعلن أن الدار داره، ويريدها على أجمل صورة.
❋ ❋ ❋
في غرفة صغيرة ضمن أحد المنازل التي شملها التنظيف، كان أحد المتطوعين يزيل آثار الغبار الذي علق على صورة معلقة في أحد أركان الغرفة، كانت الصورة للمغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ، أعاد المتطوع الصورة إلى موضعها، وسالت دمعة من عينيه، وهو يستذكر السلطان الراحل، “هذا غرسك يا والدنا الراحل”، ويدندن بأغنية قديمة، “وحدتنا بعد العنا والانقسام، علمتنا نعلو على كل المحن”، قبل أن ينضم إلى بقية المتطوعين في استكمال تنظيف المكان.
❋ ❋ ❋
عودة إلى الفريق الذي انتهى من تنظيف أحد المنازل، باحثين عن صاحبه، ومتوجهين إلى قائد الفريق الذي كان يرشدهم إلى مداخل المنزل وممراته، والغرف التي تحتاج إلى عونهم ومساعدتهم، هذا الذي عمل بكل طاقته، وزيادة، وكأنه صاحب الدار، مستفسرين عن كينونته، ومتوجهين إليه بالسؤال الحائر:
■ أهذا بيتك ؟
فيأتيهم الجواب الذي تناسل في كل بيوت شمال الباطنة: هذا ليس بيتي.. هذا وطني!.
twitter: @khalfan74