«جرفة صفر» إحدى الظواهر المناخية القديمة التي تم سردها عبر النقوش
كتبت ـ منى بنت منصور الخروصية:
مرت عمان بحالات مدارية وأعاصير متفاوتة القوة في سنوات متعددة.. وبعد أن ضرب الإعصار (شاهين) مناطق مختلفة من السلطنة، يعيد التاريخ نفسه ـ كما يقال ـ فهناك في مثل هذا الشهر ومنذ سنوات عديدة .. حدثت (جرفة صفر).. ويكثر الحديث عن هذه الحالة المدارية (جرفة صفر)، وهي عبارة عن سيل عظيم وجارف.. كما تداولت صور لنقوش صخرية تم نقش عليها حوادث وسيول جارفة حدثت في شهر صفر.. (الوطن) اقتربت أكثر من المشهد والتقت بعدد من الباحثين والمهتمين بالكتابات الصخرية الذي أكدوا عن أن الأحجار المنقوشة والكتابات وثقت تلك الحالات المدارية التي مرت بها عمان.
شهر (صفر)
في البداية يقول حارث بن سيف الخروصي ـ باحث ومهتم بالنقوش الحجرية: ”يعد شهر صفر من الأشهر المشؤومة في الجاهلية قبل الإسلام، وكان العرب لا يتزوجون فيه ولا يغزون فيه واعتقد الإنسان العربي في الجاهلية أنه شهر تكثر فيه المصائب والأمراض والأوبئة، ورغم قدوم الإسلام الحنيف الذي نهى عن التطير إلا أن بعض المعتقدات بقيت في أذهان الناس عبر الزمن، ومن تلك المعتقدات المتعلقة بشهر صفر وهو ما يعرف في العصر الحديث بـ(الميثولوجيا) وهو علم يختص بدراسة القصة والمعتقد ويحاول الرجوع إلى جذور ذلك المعتقد، وقد دأب بعض الناس وحتى عصر قريب بالصلاة والتضرع إلى الله في هذا الشهر بدفع البلاء عنهم حتى وقد أدركت ذلك بنفسي. مضيفا: ”من الكتابات التي تتحدث عن (جرفة صفر) ما نقشه الشيخ عيسى بن سيف الخروصي على الصخور بحدوث تلك الجرفة وأسفرت عن أضرار بالغة، حسبما أشار الكاتب في النقش الصخري.
الأحداث والظواهر المهمة
محمد بن نبهان الصلتي ـ باحث ومهتم بالنقوش الصخرية يقول: الكتابات الصخرية شاهد كافٍ لوقوع ظاهرة معينة أو حدث، واعتاد العمانيون على توثيقها من خلال كتابة الأحداث والظواهر المهمة على الصخور أو الأخشاب أو جدران المنازل والمساجد، وتعد هذه النوعية من الكتابات وسيلة من وسائل التدوين والتأريخ والتوثيق، وكثير من الأحداث غابت من صفحات الكتب، ودونت في الصخور، وقد شاهدت بنفسي نموذجًا من هذه الكتابات في صخور قرية الصلوت بوادي بني خروص، وأخرى في جدران مسجد المزارعة بحارة العقر بولاية نزوى.
حالة مناخية مدارية
بدوره يشير سامي بن هلال المعمري مهتم بالنقوش الحجرية: في إحدى رحلاتي البحثية الهادفة للبحث عن الكتابات الصخرية في شعاب الوديان والجبال بالرستاق عثرت على كتابة صخرية في إحدى شعاب وادي الحاجر وتحديدًا في بلدة حاجر بني عمر تؤرخ لحالة مناخية مدارية حدثت في ٢٥ صفر ١٢٥٢هـ جاء فيها:(تاريخ بما وقع علينا من الله تعالى نهار ٢٥ من صفر سنة ١٢٥٢هـ من الهجرة النبوية سيل عظيم من الله شديد والله على ما أقول شهيد وهذه الحجرة قد أخذها الطوفان من جري هذا الوادي وكتبه الفقير الأقل لله العبد لربه راشد بن سويف بن علي بن سعيد بن خلفان المعمري بيده)، ويبدو أن النقاش حاول أن يوثق لنا حجم الحالة المدارية التي اجتاحت السلطنة في تلك الفترة عندما وصفها بالسيل العظيم ثم أردف بقوله: إن الطوفان أو قوة جريان الوادي قد استطاعت حمل صخرة كبيرة.
مفهوم (جرفة صفر)
وقد أوضح لنا الباحث في الأرشيف المناخي حارث السيفي في كتابه:(الغيث العتيق) قراءة تحليلية لهذه الكتابة الصخرية، حيث أكد في كتابه أن شمال السلطنة في ذلك التاريخ المنقوش، السبت ١١ يونيو فعلًا قد تعرض لإعصار مداري عرف بإعصار عام ١٨٣٦م وقد أصاب عموم المناطق الشمالية من السلطنة ونزلت أمطار غزيرة وسالت الأودية والشعاب بغزارة.
مشيرًا الى أن مفهوم (جرفة صفر) هو مفهوم عام ومنتشر في جميع مناطق السلطنة ويطلق على الحالات المدارية التي تحدث في شهر صفر إذ توصف في التاريخ العماني بالقوة والغزارة المطرية والخسائر البشرية والمادية ويسرد لنا التاريخ العديد من هذه الحالات التي ارتبطت تحديدًا بشهر صفر لعل منها كتابة صخرية أيضًا على إحدى صخور وادي الحاجر حدثت عام ١٣١٦هـ/ ١٨٩٨م وهو إعصار شمل أودية جبال الحجر والسواحل العمانية الشمالية ومما دونه الناقش فيها: (وقع علينا غضب الله ريح شديد وطاحت من الحاجر مئتي نخلة وطاحت البيوت كلها إلا خمسة…)، وبالرجوع إلى أرشيف الباحثين والمؤرخين في الجانب المناخي نجد أنه حدثت أعاصير مدارية مختلفة في هذا الشهر.
فيذكر الباحث في الأرشيف المناخي حارث السيفي أنه حدثت جرفة صفر في عام ١٩٧٦م وتركزت في الباطنة والظاهرة والداخلية.
قبل ٦٠ عاما
يضيف يوسف بن حمد الخروصي: إن (جرفة صفر) حدثت في ولاية العوابي قبل ٦٠ عامًا، حيث الأمطار نزلت فجأة وبغزارة كبيرة سالت على أثرها الشعاب والأودية وتهدمت البيوت وسقطت الأشجار ولجأ الناس إلى الكهوف للاحتماء من خطر الإعصار.
ويذكر بعض المؤرخين أن (جرفة صفر) حدثت أيضًا في شهر صفر ١٣٨٥ هجري ـ يونيو عام ١٩٦٥م وما زالت أحداثها عالقة في ذاكرة المعاصرين لها، وها هي تلك الأحداث تعود على هيئة إعصار (شاهين) المداري من الدرجة الأولى لتصنع أحداثا مشابهة للأحداث التاريخية الماضية، وحفظ الله عمان.
نماذج كثيرة من النقوش
يقول سند بن حمد المحرزي: مرّت بعض البلدان العمانية بأحداث كثيرة كالجراف وحلول الأوبئة الذي يؤدي لوفاة خلق كثير وكذلك الريح العاصفة تُخلِّف دمارًا لمن تنزل بساحته وقد حفظت هذه الكتابات والتدوينات والنقوش شيئًا من تلك الأحداث عبر الأزمان.
مشيرًا إلى أن النقش واضح وحدثه واقع وقد اعتاد العمانيون نقش وحفر أحداثهم المهولة على الصخور وعلى ضفاف الأودية، وهناك نماذج كثيرة من هذه النقوش أستشهد بشيء منها من كتابنا: (الكتابات والنقوش الأثرية في المنطقة الشرقية، في ص٣١).
الرسومات الحجرية
كما يشير عبدالعزيز بن صالح الشكيلي ـ من وادي بني غافر: هناك مخزون كبير من الكتابات الصخرية ذات عصور مختلفة منها طريق من جبل السراة إلى وادي بني غافر وهو شاهد على تلك الرسومات الحجرية، وأبرز الأشياء في الرسومات الحجرية تنقل الوضع السياسي في تلك الحقبة من توثيق أحداث مهمة ورسم جنود وفرسان وخيل عليها فارس بيده سيف أو بندقية وأيضًا رسومات إبل وقوافل وكذلك ذكر الأنساب، حيث انتشر بشكل واسع شخص يكتب نسبه مع القبيلة وأحيانًا بيت شعر، كما هناك توثيق رائع في وادي الصدف من قرية سني تعكس اهتمام الإنسان القديم بالعلوم التطبيقية، كما يوجد نقش صخري لآلة فلكية قديمة تسمى (الأَسْطُرلاب) ومن الكتابات التأثيرات الاقتصادية التي مرت بها تلك الحقبة التاريخية، وهناك توثيق مهم في وادي سداق بوادي وادي بني غافر السفينة والثور والزراعة الموسمية ربما الشعير أو القمح، وقيل عن وادي سداق أنه موطن لنبي من أنبياء الله وهذا دليل على قدم المكان وأيضا رسومات طويلي القامة منتشرة في الوادي.
السيول والوديان
في الأخير يتحدث منصور بن ناصر الخروصي قائلا: التاريخ سجّل لنا أنه حدثت أمطار غزيرة جرفت ما صادفته أمامها من بشر وشجر وحجر ولأنها حدثت في شهر صفر عُرفت بـ(جرفة صفر)، مؤكدًا أنني أتذكر شخصيًّا كمية السيول والوديان التي جرفت الحيوانات وكيف كانت تطفو عبر ارتفاع شاهق وفي الصباح كشف الفجر عن حجم الأضرار، حتى وصلت كمية المياه إلى درج المسجد الذي نصلي به، وبعد فترة تلاشى واختفى.