لم يكن مفاجئا صدور رواية “حرير الغزالة” لجوخة الحارثي عن دار الآداب بعد حوالي عام ونصف من فوزها بجائزة مان بوكر العالمية لسنة 2019، فهي كما صرّحت بُعيد فوزها بالجائزة أنها قد شرعت فعلا في كتابة رواية جديدة قبل ثلاث سنوات من ذلك الفوز(*)، وحالما اكتملت الرواية الموعودة دفعتها للنشر دون كبير تهيّب أو طويل تردد؛ إذ لا يبدو أن جوخة الحارثي تلقي بالا لما تسببه الجوائز الكبرى عادة من تخوّف حيال الخطوة التالية. ومردّ ذلك كما أحسب هو أن الرواية الفائزة “سيدات القمر” قد كُتبت قبل عقد كامل من تاريخ فوزها، وأعقبها أعمال أخرى نال بعضها حظا من الجوائز أيضا. لذا فجوخة قد تجاوزت “سيدات القمر” نفسيا وزمنيا حتى قبل الفوز بالمان بوكر.
في هذه الرواية “حرير الغزالة” تضعنا عتبتها الأولى/ العنوان أمام اسمين يتكشّف لنا أنهما ليسا سوى اسمَي الشخصيتين الرئيستين فيها؛ بيد أنهما لا يقدمان نفسيهما عَلَمين من الوهلة الأولى، فمن النادر أن يكون “حرير” اسم علم. أما “غزالة”، وإن كان أوفر حظا من “حرير” في عمان، فإن أل التعريف أبعدته تماما عن هذا الاحتمال أيضا، فضلا عن علاقة الإضافة التي تجمع بينهما “حرير الغزالة”، ما قد يثير التفكير في حقيقة الشخصيتين أكثر من مجرد عنوان يُقرأ على ظاهره، لاسيما أن أول إشارة ترد فيها كلمة “حرير” _ بعد العنوان _ وردت مضافة إلى الروح في وصف عشق “غزالة” للعازف: “حرير روحها يحترق كالنسيج، وأي دخان يصّاعد لا يكتب غير اسمه، ولو نظرةً صوَّبَ عليها لَوَهَبها طفلا، لو رغبةً مُنحِتْ لَرغِبتْ في حبه”(ص11). فلا يمكن للقارئ أن يتجاهل هذه الإشارة الأولى لكلمة “حرير” الماثلة في العنوان، ويتركها تمر عفوا لدى ورودها الأول في النص من دون أن يعيرها انتباهه وتأويله، فالحرير _ كما تصفه العبارة _ مادة الروح، والروح هنا هي روح “غزالة”، فتتساوى بذلك الإضافة في العبارة: “حرير روحها” مع الإضافة في العنوان: “حرير الغزالة”. وعلينا أن ننتبه من الآن وصاعدا إلى أن هذه الإشارة قد تكون مفتاحا لكثير من الأسئلة التي يثيرها النص كما سيأتي.
تبدأ أحداث الرواية بشخصيتي “غزالة” و”آسية”، حتى يكاد القارئ يظن أنه سيرافقهما طوال الرواية متابعا تطورهما. تُعزز هذا الظن العتبة الثانية/ صورة الغلاف التي تُظهر فتاتين تحيلان إلى “آسية” و”غزالة” في طفولتهما المفترضة في بلدتهما البعيدة. ولكن الرواية تنقلب على عتبة الغلاف (غزالة وآسية) بعد 28 صفحة لتنتصر لعتبة العنوان (حرير وغزالة). وفي الحالين يتم تثبيت “غزالة” عاملا مشتركا في هاتين الثنائيتين، ولكن المفارقة أن “آسية” أيضا عامل مشترك سردي بين “حرير” و”غزالة” من جهة أخرى؛ إذ تمثل آسية لـ “حرير” حاضرها وبؤرته المركزية، وتمثل لـ “غزالة” الماضي بحمولاته وذاكرته التي أفضت إلى تشكيل شخصية غزالة اللاحقة. فعلى الرغم من المساحة الصغيرة التي تشغلها “آسية” سرديا، فإنها تتمدد ضمنيا في خطين زمنيين مختلفين، ليصحَّ فيها قول الناقد محمد زرّوق أنها “حاضرة بالغياب”(**).
ولكن على الرغم من حضور “آسية” في هذين الخطين الزمنيين المختلفين: الماضي، والحاضر، إلا أنهما خطّان لا يلتقيان، إذ بقيت قصة غزالة مع آسية منفصلة عن قصة حرير معها في الجانب الآخر. لم تُحدِّث غزالةُ حرير عن أهم أحداث طفولتها (التي شكلتها آسية وعائلتها الصغيرة: أبوها، وأمها سعدة، وأختها الصغيرة زهوة)، وبالمثل لم تُحدِّث حريرُ غزالة عن البنت الغامضة في الطابق الثالث من السكن الجامعي التي حاولت أن تتعرف على سرّها حتى عرفته، ولكنها أبقته سرًّا عن غزالة صديقتها الأقرب، لتدور معظم أحاديثهما معا “حول الحاضر والأولاد والعمل”(ص66)، فضاعت نقطة الالتقاء التي كان يمكن أن تصل بين الخطين الزمنيين/ الموضوع المشترك، ليستمر الماضي ماضيا، والحاضر حاضرا على الرغم من أنهما يدوران حول الشيء نفسه، والشخصية نفسها، والبؤرة نفسها: “آسية”.
غابت “آسية” من زمن “غزالة” لتحضر في زمن “حرير”. وفي الحضور والغياب بدت رمزا أكثر منها شخصية، صورةً غائبة يفتش عنها القارئ بين صفحات الرواية علّه يعثر عليها، خيطًا يشده لمتابعة القراءة. فهل وُجدت “آسية” حقا؟ أو تراها كانت خيالا رأته “غزالة” في طفولتها ثم استفاقت؟ أو أنها إحدى شخصيات “حرير” التي تحاول كتابتها في يومياتها فخلطتْ الحقيقي بالمتخيل؟!
بإعادة النظر في بنية رواية “حرير الغزالة”، نجد أنها مؤلفة من أربعة فصول على النحو الآتي: زهوة الحياة، حفلة الأوركسترا، مُغني الملكة، عام الفيل. وتتخللها يوميات (داخلية) تكتبها “حرير” في زمن قريب من الحاضر، ومُؤَرخة بتواريخ متفرقة على امتداد عشر سنوات ناقصة شهرا (من 21 نوفمبر 2006 وحتى 21 أكتوبر 2016)، وهي تواريخ لا تحيل بالضرورة إلى أحداث ذات مغزى، ولكن هل تُكتب اليوميات في تواريخ ذات مغزى غير ما تصنعه الأحداث المسرودة نفسها؟ بيد أن فصول الرواية تحيل إلى حياة “غزالة”، لا إلى حياة “حرير”، التي حضرت بنحو مباغت لتنقلنا إلى الزمن الحاضر بينما كنا مشغولين بالبحث عن مصير آسية.
يستوقف القارئ التناوب بين الصوتين: “غزالة” مرويًّا عنها بصوت السارد العليم، و”حرير” التي تكتب يومياتها بضمير المتكلم؛ فمن الواضح أن للشخصيتين اللتين جمعتهما الجامعة، حياتين مختلفتين تماما، وإذا كان لدى الطرفين ما ينقصهما فهو وجود “آسية”. ولكن السؤال الذي لا بد أن يُطرح: إذا كانت “حرير” تسرد حكايتها بضمير المتكلم وهي تكتب يومياتها، فمن الذي يسرد حكاية “غزالة”؟ من المعلوم أن أي تنويع صوتي في أي نص روائي لا يمكنه أن يكون اعتباطيا، ولا يمكن التسليم بأنه منحة مجانية من الكاتب ليس لها ما يبررها. وبما أن أحد الصوتين معلوم لدى القارئ، فمن يختبئ وراء الصوت المجهول الذي يمثله السارد العليم؟ وماذا لو أتيح لآسية أن تعبّر عن نفسها هي أيضا؟
يمتلك صوت حرير/ ضمير المتكلم سلطة الحكي من وجهة نظره الخاصة، ويعبّر عن دواخله بنحو أعمق، ويمتلك سلطة القرار مدفوعا برغبته الداخلية في سرد التفاصيل، ولهذا وجدنا “حرير” ترسم عالمها في يومياتها بإقناع، وتصف ما حولها بعينيها مباشرة، لا بعين سارد منفصل عنها. عالمها مكتمل، وحياتها واضحة. تمتلك “حرير” رؤية للأشياء أوضح مما يراه الآخرون: ترى حقيقة العازف زوج غزالة، وترى انسداد أفق علاقة غزالة بمغني الملكة، وتعرف مآل علاقتها بالفيل. تدرك الأشياء قبل وقوعها. ولكنها شخصية غريبة فيما يتصل بعلاقتها بالآخرين: تنجذب للشخصيات الغريبة، وتتعلق بغريبي الأطوار (انجذبت لغزالة بسبب إجابتها الغريبة عن سؤال الأستاذ عن سبب عدم نومها ليلة البارحة قائلة “كنت أنظف الثلاجة”، وانجذبت للفتاة في الطابق الثالث في السكن الجامعي لغرابتها ونظرتها الغائبة). تصف علاقتها بآسية وصفا أقرب إلى الحب، وتصف علاقتها بزوجها داود بالصداقة! حياتها مستقرة ومرفهة لدرجة الاستعراض أحيانا، ولم ينغصها سوى مرض أمها، وانسحاب أبيها، وبحثها المضني عن البنت الغامضة في الطابق الثالث. الشخصيات المحيطة بها مرسومة بعناية: جدّة أمّها، أمّها التي ترفض التعمق في أي شيء وتبقى على سطح الأشياء دائما، أبوها السفير وعلاقته الهشة بزوجته، جَدّ أمها تاجر اللؤلؤ في أبوظبي وقصره هناك قبل أن يخسر تجارته ويعود إلى صحار، بل حتى شخصية نجيب الطباخ وأخوه كريم البستاني، ووصفها الدقيق لبيت البحر.
بينما غزالة/ أو ليلى، رهينة السارد العليم الذي بدا أنه لا يعلم عنها كل شيء، فأبقى القارئ معلقا يبحث عن تفسيرات لا تأتي، من قبيل: ما طبيعة علاقتها بأمها؟ لماذا تأخذ على أمها انفراط لفّتها وهي في تلافيفها رضيعةً، على الرغم من أنه مما وقع قبل أن تستطيع ذاكرتها الشخصية حفظه؟ لماذا لم نرَ من أمها “فتحية” أكثر من اللّفة التي طارت بغزالة ساعة الفاجعة قبل أن تتلقفها يدا “سعدة”؟ ولماذا لم نستطع رؤية إخوتها وأبيها الذين وردوا بضبابية وغَبَش؟ على عكس السفير والد “حرير”، بل وعرفنا أسماء إخوتها الثلاثة: عمر وماجد وفيصل، على عكس “غزالة” التي يذكر السارد العليم أن لها إخوة، ولكنه لم يعلم عددهم فضلا عن أسمائهم، بينما استطعنا _ في المقابل _ رؤية عمتها “مليحة” بوضوح تام؟
التفسير الذي أفترضه هو أننا رأينا غزالة وآسية ومليحة بعين “حرير”، وما لم تره حرير لم نستطع رؤيته! فليس السارد العليم الذي لم يعلم كل شيء سوى “حرير” نفسها، فعلى سبيل المثال: رأت حريرُ “مليحة” وعرفتها ورافقتها، فاستطعنا رؤيتها بوضوح. ولكنها لم ترَ باقي أسرة “غزالة” فلم نستطع رؤيتهم. رأينا العازف ومغني الملكة والفيل لأنها رأتهم بعين “غزالة”، أو لأنهم كانوا مادة الحكايات بين الصديقتين، إلا “آسية” التي لم تكن مادة هذه الحكايات بينهما؛ أخفتها كل منهما عن الأخرى، فباحتْ بها “حرير” سردا في يومياتها، وحكتها “غزالة” لعشيقها الثاني مغني الملكة.
فما القرينة التي نثبت بها فرضية أن صوت السارد العليم ليس سوى “حرير” نفسها؟ في الواقع نستطيع أن نسوق قرينتين دالتين على الأقل، الأولى منهما: الطبيعة التنبؤية للسرد؛ إذ نلاحظ أن معظم الفصول التي يسرها السارد العليم تنتهي بحدث تنبؤي يقع في المستقبل، ومثاله: بينما نتعرف في الصفحات الأولى من الرواية على شخصية “غزالة” التي لا تستطيع الحياة من دون حب، فوقعت في حب جارها العازف، نفاجأ بالسارد العليم يتنبأ بهربه بعد خمس سنوات من زواجهما، يقول: “وفي سنتها الأخيرة في كلية التجارة، هرب العازف من بيت الزوجية”(ص11). ومرة أخرى، بينما نشارك، نحن القرّاء، سعدة فرحتها بمولودتها الجديدة “زهوة”، يفاجئنا السارد العليم بتنبُئِه بنهاية سعدة المأساوية التي ستحدث بعد ثلاث سنوات، عندما سارع إلى القول: “لكن سعدة لم تكمل الثلاثين، ماتت بعد موت ابنتها الثانية “زهوة” بسنة واحدة”(ص18). وكذلك يفعل السارد العليم مجددا فور رحيل آسية وأبيها من قرية “شعرات باط”، إذ يسارع إلى كشف سيناريو المستقبل فيقول: “لم يسمع أحدٌ عنها خبرا، ولم تعد إلى مندوس أمها في البيت المقفل، وإنما سُمع صوتها بعد سنوات تردده الإذاعات والتلفزيونات”(ص28). وبهذه الطريقة التنبؤية تنتهي معظم الفصول التي يسردها السارد العليم، مخبرا قبل الأوان عن مآلات الأحداث والشخصيات في حياة “غزالة”.
ولكن ما علاقة هذا بالفرضية التي سقناها بأن صوت السارد العليم ليس سوى “حرير”؟ سنقول: أليست هذه الطبيعة التنبؤية هي نفسها سِمة “حرير”؟ “حرير” التي رأت ما لم تره “غزالة” في زوجها العازف، وكتبت عنه في يومياتها تقول: “يقف طوال الحفلة في زاوية متكئا بجسده على الجدار، كأنه سيتلاشى في أي لحظة، لا يتحدث ولا يتحرك إلا إذا طلبت منه غزالة أو أحد الولدين شيئا، لا يرمش إذا فرقعت البالونات، ولا يهتز إذا علا الصخب وتراقص الصغار، كأنه في زاويته في عالم مفصول تماما عن عالمنا، ينظر إلينا ولا يرانا، نغني ولا يسمعنا، نفتح الهدايا وسط صيحات الأولاد، وعلى وجهه تعبير يشبه الابتسامة، ويشبه الحلم، لا يكاد يتكلم وكأنه يقلّص ببنيته الضعيفة وصمته المساحة التي يحتلها من فضاء العالم، كأنه ليس موجودا بالفعل، أو أن وجوده يستحيل القبض عليه والتأكد منه”(ص35). هكذا أبصرت “حرير” ما لم يحدث بعد، ورتبت الأحداث المستقبلية بحدسها الذي لا يخطئ، قبل أن تراها وتدركها “غزالة” التي احتاجت سنوات حتى تدرك أن وجود زوجها “في بيتها كان شبحيا، مهددا بالزوال، لم ينغمس في أي تفاصيل للحياة اليومية، لم يهتم أن ينتقلا من شقة الإيجار إلى بيت يملكانه، بفناء يلعب فيه الأطفال، وحديقة يزرعان فيها الورد والطماطم. لن يزرع العازف شيئا له جذور، لن يدق مسمارا واحدا في جدار الشقة ليعلق التذكارات، لن يقرر إلى أي حضانة سيذهب التوأم ولا أين سيتنزهان في الإجازة”(ص93). وهكذا فعلت “حرير” أيضا عندما وصفت علاقة “غزالة” بمغني الملكة _ وهي في وهجها ما تزال _ بأنها “علاقة بلا أي أفق”(ص94). وفعلت الأمر نفسه في تنبُئِها بمستقبل علاقة “غزالة” بالفيل عندما قالت لها: “ليس لهذا الحب مغزى”(ص157). هكذا يلتقي السارد العليم الذي يحكي قصة “غزالة” مع صوت المتكلم/ “حرير” في السمة نفسها التي تبني من الحاضر صورة للمستقبل. يلعب الأول منهما في ملعب الماضي، ويلعب ضمير المتكلم في ملعب الحاضر، ويؤثثان معا رقعة الشطرنج التي تتنقل فيها الشخصيات بين اللاعبَين اللذين لم يكونا سوى اللاعب نفسه “حرير”.
بهذا نستنتج أن “حرير” التي تكتب يومياتها في شطر، كانت تسرد حكاية “غزالة” وتتخيل شخصيات حكايتها في شطر آخر! ما قد يعني أنه لا وجود لغزالة ربما، أو لآسية أو مليحة أو حتى أسماء الرجال من عشاق غزالة الذين أطلقت صفاتهم عناوينَ لفصول روايتها. كلها شخصيات نسجتها مخيلة “حرير” لا أكثر، فليست “آسية” سوى (آسية حرير)، وما غزالة كذلك إلا (غزالةُ حرير). شخصيتان صنعتهما ونسجتهما من خيالها لتبني رواية داخلية ليست يومياتها إلا نواتها وحريرها ومادتها الأولية. ولكن هل هناك ما يشير في النص إلى أن “حرير” كاتبة؟
يُعرِّف معجمُ السردياتِ (اليوميةَ) بأنها “ضرب من ضروب كتابة الأنا، يتعهد فيه مؤلف ما بأن يكتب يومًا بيوم على نحو حميمي، يكاد يكون سريًّا، ما يقع له من أحداث قريبة منه في الزمن قربًا يتماس معه الزمن المستذكر وزمن التعليق”(***). وما يعنينا في هذا التعريف أن اليومية (كتابة)، وأنها ليست يوميةً ما لم (تُكتب). وفي هذا ما يشير إلى أن “حرير” كاتبةٌ بما أنها كتبت يومياتها الموثقة بتواريخ معينة، وإن لم تكن يومًا بيوم، غير أنها تتماس مع زمن الأحداث التي تسردها في الحاضر/ زمن الكتابة، ومستخدمة ضمير الأنا المتكلمة. وهكذا نقبض على حقيقة أن “حرير” كاتبة، قررت أن تكسو يومياتها لحما ودما من حكايات أخرى مستعيرة لها ساردا عليما ليحكي بالتناوب معها حكاية “غزالة” في الزمن الماضي، بدءًا من اللحظة التي طارت فيها لفة الرضيعة في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وموظّفةً في الآن نفسه تقنية (التخييل الذاتي) التي أتاحت لها أن تكون بطلة موازية، وصديقة لبطلتها المتخيلة “غزالة”. وهكذا تشكَّل البناء المُدمج من (اليوميات، وحكاية غزالة) في شكله الروائي الأخير “حرير الغزالة”. ثم أليست الرواية، بعد كل شيء، وعاء فسيفسائيا بوسعه أن يجمع كل أشكال الكتابة: يوميات، مذكرات، رسائل، مسرح، سينما، شعر، الخ؟
ولحسن الحظ نقبض على إشارة أخرى تدل على “حرير” الكاتبة؛ ذاك هو نص رسالتها التي لم ترسلها لآسية. فماذا تقول “حرير” في رسالتها؟ كتبت تقول: “أريد دوما أن أكتب إليكِ وأخجل أن أكتب إليكِ. ما الذي عرفتُه وما الذي لم أعرفه؟ حين ظننتُ أني قد عرفتُ نفسي عرفتك فجهلتُ نفسي. أسحب طرف ثوبي كي لا تمزقه جنازير الوقت، وأحلم أنه في يوم ما سأرى وجهك واحدا متعدّدا، له سيماء مختلفة كل مرة، وأقرأُه رغم تصلبه، وأعجب كيف لا أرى وجهك وأنا أنظر إليكِ وكيف أراكِ حين لا أنظر إليكِ. وجهكِ الأوجه، ناء وقريب. أردت أن أكتب لكِ عن حرقة الرغبة في أن تتحرري من الماضي. عن كيف تختنق أنفاسي لومضة إصبعك المثقلة. أريد أن أكتب لكِ كثيرا ولكن الرمل تحت أقدامي وثلج الوقت يزحلقني فلا أثبت، وأمد يدي فلا يداكِ تثبِّتني. أردت دوما أن أكتب لك، عن الفرس التي تشبه لوزة، تلك التي رأيتها تركض في طرقات الجامعة ليلة مشينا فيها، وعن القلب بوقره الهائل من الذنب. أردت أن أكتب وخفتُ. خشيتُ التبرير وخشيتُ الانتظار وخشيتُ الاعتذار. وإني أحلم رغم كسّارات الأحلام الهائلة، إني أؤمن ببراءتك حتى وإن جانبتكِ الطرق وخوَّفتك المسالك”(ص141 – 142). ليست هذه الرسالة (النص) رسالة عادية، فهي لم تُكتب بلغة عادية مما تكتبه الصديقات عادة لبعضهن بلغة مباشرة، بل قطعة نثرية أقرب إلى الشعر، كشفت عن إمكانيات “حرير” الأدبية ما يخولنا أن نفترض أنها (كاتبة داخلية) لهذه الرواية ذات البنيتين الفنيتين المتداخلتين.
أرادت “حرير” أن تكون الجسر الواصل بين طرفي الرواية الأصليين: “غزالة” و”آسية” بعد تفرقهما، فكتبت يوميات في زمن لاحق لزمن طفولتهما، وصادقت الشخصيتين معا واحتفظت لنفسها بحق معرفتهما منفصلتين، وآثرت أن تستأثر وحدها بخيط حكاية لا تكتمل عبر لعبة الظهور والاختفاء. تقطع سرد حكاية “غزالة”، لتكمل عبر يومياتها الداخلية ما ترمم به ثغرات الحكاية الأصلية بصوتها الخاص، وتضيف رؤيتها التنبؤية لحكاية “غزالة” الأصلية، وتخلق شخصيات جديدة من حكايتها الخاصة لتوسع رقعة المكان بين المتخيل والواقعي، ما بين القرية والمدينة، وما بين صور ومسقط وصحار وأبوظبي، وأماكن أخرى تبدأ من تايلند ولا تنتهي بالبلدان التي درس فيها والدها السفير أو عمل فيها.
ولم يغيّر اختلاف صوت السارد من اللغة التي بدا واضحا أنها كُتبتْ بنَفَسٍ واحد، وهذا ما يقودنا إلى القرينة الثانية في فرضيتنا السابقة. نقرأ مثلا مما يسرده السارد العليم عن غزالة قوله: “انطوت السنون التي عاشتها مع عازف الكمان كأن لم تكن، أفاقت ذات صباح فإذا بها في الثانية والعشرين، وحيدة مُطلَّقة مع طفلين وشهادة بكالوريوس في التجارة. بمرور الوقت نما بداخلها الإحساس أنه لم يوجد في دنياها حقا، لقد مرّ عليها كجناح طائر، لامس ريشُه خدَّها، أعطاها الطفلين بخفة، نقر بمنقاره خشب حياتها، لا ليصنع عشًا، أو ليترك أثرًا، وإنما لمجرد الدعابة”( ص42)، ثم بالنفَس السردي نفسه، نقرأ بصوت “حرير” تكتب في يومياتها عن أمها: “لم تسحقها نياشين الزواج، واكتفت من تواطآته بسرير العرش المؤلف بين غرفتها وغرفة أبي، كما لامستها الأمومة بجناحها بخفة كأنما تداعب وجودها من باب المرح لا غير”(ص127). تختلف الحكايات بين الشخصيتين، ويختلف الصوت في سرد الحكايتين، ولكن اللغة تكاد تكون واحدة، لغة تَغلِبُ فيها “حرير” بما امتلكت من سلطة الكتابة، وبما جهلت من حياة “غزالة”، لتكون روايتها مجتمعة مروِيَّة برؤية كاتبها الداخلي “حرير” وبصوتيها.
وأحسب أن جوخة الحارثي رسمت ذلك منذ البداية، وهيّأتْ له، عندما صيّرتْ “آسية” قيمة زمنية أكثر منها شخصية من لحم ودم، فغيّبتها لتجعل منها ذاكرة ورمزا؛ تشدّ إلى الماضي المفقود من جهة، وتشد ّإلى الحاضر الغامض من جهة أخرى، وقد بدا هذا الحاضر مبتورا عن ماضيه الذي يسكن في ذاكرة “غزالة” وحدها. وبهذا ندرك أن استمرار حضور “آسية” الفعلي في المشهد كان سيُفقد الطرفين “غزالة” و”حرير” مبرر حكايتيهما، ويقطع الوتر الذي يشدهما معا.